كتاب فتح العلي المالك في الفتوى على مذهب الإمام مالك (اسم الجزء: 2)

عَنْهُ فَتَوَلَّى دَفْعَ ذَلِكَ بَعْضُهُمْ مِنْ مَالِهِ عَلَى أَنْ يَرْجِعَ عَلَى الْبَاقِينَ بِمَا يَخُصُّهُمْ فَهَلْ لَهُ الرُّجُوعُ عَلَيْهِمْ فَقَالَ نَعَمْ لَهُ الرُّجُوعُ عَلَيْهِمْ بِذَلِكَ؛ لِأَنَّهُمْ لَا يَجِدُونَ الْخَلَاصَ إلَّا بِذَلِكَ وَهِيَ ضَرُورَةٌ لَا بُدَّ لَهُمْ مِنْهَا وَأَرَاهُ جَائِزًا اهـ.
قَالَ الْبُرْزُلِيُّ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ بِمَنْزِلَةِ مَنْ فَدَى مَالًا مِنْ أَيْدِي اللُّصُوصِ وَالصَّحِيحُ لُزُومُهُمْ ذَلِكَ إنْ لَمْ يَتَخَلَّصُوا إلَّا هَكَذَا، وَذَكَرَ هُنَا أَنَّهُ عَلَى قَدْرِ أَمْوَالِهِمْ كَالْخِفَارَةِ عَلَى الزَّرْعِ وَالْغَلَّاتِ وَنَحْوِ ذَلِكَ.
وَكَانَ شَيْخُنَا أَبُو مُحَمَّدٍ الشَّبِيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يَخْتَارُ أَنَّهُ عَلَى عَدَدِ الْأَحْمَالِ لَا عَلَى قِيمَتِهَا وَيُعَلِّلُ ذَلِكَ بِأَنَّهُ قَدْ يُؤَدِّي إلَى كَشْفِ أَحْوَالِ النَّاسِ وَيَخَافُ عَلَى مَنْ حِمْلُهُ غَالٍ مِنْ إجَاحَتِهِ وَقَصَدَ بِالْإِجَاحَةِ فِي الطَّرِيقِ وَقَدْ اخْتَرْته أَنَا حِينَ قَفَلْنَا مِنْ الْحَجِّ بِبِلَادِ بُرْقَةَ ضَرَبْنَا الْخِفَارَةَ مَرَّةً عَلَى عَدَدِ الْأَحْمَالِ وَمَرَّةً عَلَى عَدَدِ الْإِبِلِ؛ لِأَنَّهُ كَانَ خَلَطَ عَلَيْنَا أَعْرَابُ أَفْرِيقِيَّةِ فَعَمِلْنَا عَلَى عَدَدِ الْإِبِلِ خَاصَّةً لَمَّا خِفْت عَلَى مَنْ بِيَدِهِ شَيْءٌ غَالٍ فِي الرُّفْقَةِ أَنْ يُسْرِفَ لَهُ، أَوْ يُجَاحَّ قَصْدًا وَأَنَّهُ لَحَسَنٌ مِنْ الْفَتْوَى إذَا كَانَ الْمَأْخُوذُ قَلِيلًا وَإِنْ كَانَ كَثِيرًا جِدًّا فَيَتَرَجَّحُ فِيهِ اعْتِبَارُ الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَى أَنْ يَصْطَلِحُوا عَلَى مَا يَحْسُنُ يُزَادُ بَعْضُ شَيْءٍ عَلَى مَنْ رَحْلُهُ غَالٍ، وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.

(وَسُئِلَ أَبُو مُحَمَّدٍ) عَنْ رَجُلٍ مِنْ أَهْلِ الْخَيْرِ يَحْتَسِبُ لِأَهْلِ بَلَدِهِ كِتَابَةَ أَسْمَائِهِمْ وَمَا يُوضَعُ عَلَيْهِمْ إذَا رَمَى السُّلْطَانُ عَلَيْهِمْ مَالًا لِيَقْتَضِيَ ذَلِكَ مِنْهُمْ وَيُدْفَعَ لَهُ (فَأَجَابَ) لَا يَنْبَغِي لَهُ ذَلِكَ وَيَتْرُكُ غَيْرَهُ يَتَوَلَّاهُ فَإِنْ فَعَلَ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ عِنْدِي بِاَلَّذِي يُسْقِطُ شَهَادَتَهُ لِتَوَلِّيهِ.
قَالَ الْبُرْزُلِيُّ مِثْلُهُ مَا يَقَعُ الْيَوْمَ فِي قُرَى تُونُسَ تَكُونُ عَلَيْهِمْ وَظَائِفُ مَخْزَنِيَّةٌ ظُلْمِيَّةٌ فَيَطْلُبُونَ أَئِمَّتَهُمْ فِي كَتْبِهَا لَهُمْ إمَّا فِي بِطَاقَةٍ، أَوْ بَطَائِقَ وَتَارَةً يَطْلُبُونَهَا بِأَنْفُسِهِمْ وَتَارَةً يَدْفَعُونَهَا إلَى أَعْوَانِ السُّلْطَانِ، أَوْ الْعُمَّالِ، وَالثَّانِي أَشَدُّ؛ لِأَنَّهُ يُؤَدِّي إلَى تَسْلِيطِ الْعُمَّالِ عَلَى آحَادِهِمْ وَرُبَّمَا أَدَّى ذَلِكَ إلَى إضْرَارِهِمْ وَأَمَّا لَوْ كَانُوا يَكْتُبُونَ ذَلِكَ إلَى الْعُمَّالِ بِغَرَضِهِمْ، أَوْ بِغَرَضِ الْعُمَّالِ فَهَذَا لَا شَكَّ فِي حُرْمَتِهِ؛ لِأَنَّهُ مَعُونَةٌ عَلَى الْمَعْصِيَةِ وَهِيَ مَعْصِيَةٌ بَلْ لَا يَجُوزُ نَظَرُ هَذِهِ الْأَزِمَّةِ وَلَا قِرَاءَتُهَا لِلدَّلَالَةِ وَأَمَّا لَوْ الْتَزَمَ عَامِلٌ مَالًا عَلَى سُوقٍ وَهُوَ مَوْظُوفٌ عَلَى مَا يَجْلِبُونَهُ وَعَلَى مَا يَجْلِبُهُ غَيْرُهُمْ لَكِنْ هُمْ الْأَكْثَرُ مَا مِثْلُ يُلْتَزَمُ فِي بَعْضِ الْأَسْوَاقِ بِتُونُسَ كَالدَّبَّاغِينَ فَإِنْ طَلَبَ الْمُلْتَزِمُ كِتَابَتَهُ مِنْ رَجُلٍ مِنْهُمْ، أَوْ مِنْ غَيْرِهِمْ فَهُوَ لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّهُ إعَانَةٌ عَلَى جِبَايَةِ الْحَرَامِ وَلَوْ طَلَبَ الْجَمَاعَةُ رَجُلًا مِنْهُمْ يَجْمَعُ هَذَا الْمَالَ وَدَفْعَهُ عَنْهُمْ وَالْتَزَمُوا أَدَاءَهُ وَمَا بَقِيَ مِنْهُ يُوَظِّفُونَهُ عَلَيْهِمْ كَالْغَرَامَاتِ فَهَذَا إنْ كَانَ لَا يُدْخِلُ عَلَيْهِمْ غَيْرَهُمْ فِيهِ فَهُوَ الَّذِي قَالَ فِيهِ أَبُو مُحَمَّدٍ لَا يَنْبَغِي لَهُ فِعْلُهُ بَلْ يُؤَدِّي مَا عَلَيْهِ وَيَسْلَمُ مِنْ هَذَا فَإِنْ فَعَلَ فَلَيْسَ بِجُرْحَةٍ وَأَمَّا لَوْ كَانَ غَيْرُهُمْ يَدْخُلُ فِي هَذِهِ الْمَغْرَمِ مِمَّنْ يُجْلَبُ إلَى ذَلِكَ السُّوق مِنْ غَيْرِهِمْ مَعَهُمْ كَسُوقِ الْجَزَّارِينَ بِتُونُسَ فَلَا يَحِلُّ الدُّخُولُ فِي مِثْلِ هَذَا؛ لِأَنَّهُ يَصِيرُ مُغَرِّمًا مَنْ يَدْخُلُ مَعَهُمْ فِي الظُّلُمَاتِ وَإِنَّمَا تُؤْخَذُ مِنْهُ كُرْهًا.

(مَا قَوْلُكُمْ) فِي بَلَدٍ تَرَاكَمَ عَلَيْهِ مَالُ الْمِيرِيِّ الْمُوَظَّفِ وَعَجَزَ أَهْلُهُ عَنْ وَفَائِهِ فَأَمَرَ الْأَمِيرُ بِنَهْبِ رَقِيقِهِمْ وَمَعَاتِيقِهِمْ فَهَجَمَ أَعْوَانُهُ عَلَى الْمَحَلَّاتِ وَأَخَذُوا مَا فِيهَا مِنْ الْمَعْتُوقِينَ وَكَتَبُوهُمْ فِي خَلَاصِ الْمَالِ الَّذِي عَلَى الْمَحْبُوسِينَ وَالْغَائِبِينَ وَمِنْ غَيْرِ إذْنِهِمْ وَلَا رِضَاهُمْ ثُمَّ ذَهَبَ الْأَمِيرُ فَقَامَ سَادَةُ الْمَعْتُوقِينَ عَلَى مَنْ كَتَبَ الْمُعْتَقِينَ فِي خَلَاصِ مَا عَلَيْهِمْ وَطَلَبُوا مِنْهُمْ الْإِتْيَانَ بِهِمْ، أَوْ دَفْعَ دِيَاتِهِمْ فَبَعْضُهُمْ تَوَجَّهَ وَوَجَدَ مَنْ كَتَبَ فِي خَلَاصِهِ فَفَدَاهُ وَأَتَى بِهِ وَبَعْضُهُمْ تَوَجَّهَ فَلَمْ يَجِدْ مَنْ كَتَبَ فِي خَلَاصِهِ فَهَلْ يَلْزَمُهُ مَا بِيعَ بِهِ وَدُفِعَ فِي خَلَاصِهِ، أَوْ مَا يَفْدِيهِ بِهِ لَوْ وَجَدَهُ، أَوْ دِيَةُ حُرٍّ، أَوْ كَيْفَ الْحَالُ أَفِيدُوا الْجَوَابَ

الصفحة 187