كتاب أحكام القرآن للجصاص ت قمحاوي (اسم الجزء: 2)
الَّذِي يُنْسَبُونَ إلَيْهِ مِنْ قِبَلِ الْآبَاءِ نَحْوُ قَوْلِهِمْ آلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَهْلُ بَيْتِهِ هُمَا عِبَارَتَانِ عَنْ مَعْنًى وَاحِدٍ قَالُوا إلَّا أَنْ يَكُونَ مَنْ نُسِبَ إلَيْهِ الْآلُ هُوَ بَيْتٌ يُنْسَبُ إلَيْهِ مِثْلُ قَوْلِنَا آلُ الْعَبَّاسِ وَآلُ عَلِيٍّ وَالْمَعْنِيُّ فِيهِ أَوْلَادُ الْعَبَّاسِ وَأَوْلَادُ عَلِيٍّ الَّذِينَ يُنْسَبُونَ إلَيْهِمَا بِالْآبَاءِ وَهَذَا مَحْمُولٌ عَلَى الْمُتَعَارَفِ الْمُعْتَادِ
وَقَوْلُهُ عَزَّ وجل ذُرِّيَّةً بَعْضُها مِنْ بَعْضٍ رُوِيَ عَنْ الْحَسَنِ وَقَتَادَةَ بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ فِي التَّنَاصُرِ فِي الدِّينِ كَمَا قَالَ تَعَالَى الْمُنافِقُونَ وَالْمُنافِقاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يعنى في الاجتماع على الضلال [والمؤمنون بعضهم من بعض] فِي الِاجْتِمَاعِ عَلَى الْهُدَى وَقَالَ بَعْضُهُمْ ذُرِّيَّةً بعضها من بعض فِي التَّنَاسُلِ لِأَنَّ جَمِيعَهُمْ ذُرِّيَّةُ آدَمَ ثُمَّ ذُرِّيَّةُ نُوحٍ ثُمَّ ذُرِّيَّةُ إبْرَاهِيمَ عَلَيْهِمْ السَّلَامُ
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ إِذْ قالَتِ امْرَأَتُ عِمْرانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّراً رُوِيَ عَنْ الشَّعْبِيِّ أَنَّهُ قَالَ مُخْلَصًا لِلْعِبَادَةِ وَقَالَ مُجَاهِدٌ خَادِمًا لِلْبِيعَةِ وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ الزُّبَيْرِ عَتِيقًا مِنْ أَمْرِ الدُّنْيَا لِطَاعَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَالتَّحْرِيرُ يَنْصَرِفُ عَلَى وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا الْعِتْقُ مِنْ الْحُرِّيَّةِ وَالْآخَرُ تَحْرِيرُ الْكِتَابِ وهو إخلاصه من الفساد والاضطراب وقولها إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا إذَا أَرَادَتْ مُخْلَصًا لِلْعِبَادَةِ أَنَّهَا تُنْشِئُهُ عَلَى ذَلِكَ وَتَشْغَلُهُ بِهَا دُونَ غَيْرِهَا وَإِذَا أَرَادَتْ بِهِ أَنَّهَا تَجْعَلُهُ خَادِمًا لِلْبِيعَةِ أَوْ عَتِيقًا لِطَاعَةِ اللَّهِ تَعَالَى فَإِنَّ مَعَانِيَ جَمِيعِ ذَلِكَ مُتَقَارِبَةٌ كَانَ نَذْرًا مِنْ قِبَلِهَا نَذَرَتْهُ لِلَّهِ تعالى بقولها نذرت ثُمَّ قَالَتْ فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ العليم وَالنَّذْرُ فِي مِثْلِ ذَلِكَ صَحِيحٌ فِي شَرِيعَتِنَا أَيْضًا بِأَنْ يَنْذِرَ الْإِنْسَانُ أَنْ يُنَشِّئَ ابْنَهُ الصَّغِيرَ عَلَى عِبَادَةِ اللَّهِ وَطَاعَتِهِ وَأَنْ لَا يَشْغَلَهُ بِغَيْرِهِمَا وَأَنْ يُعَلِّمَهُ الْقُرْآنَ وَالْفِقْهَ وَعُلُومَ الدِّينِ وَجَمِيعُ ذَلِكَ نُذُورٌ صَحِيحَةٌ لِأَنَّ فِي ذَلِكَ قُرْبَةً إلَى اللَّهِ تَعَالَى وَقَوْلُهَا نَذَرْتُ لك يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ يَقْتَضِي الْإِيجَابَ وَأَنَّ مَنْ نَذَرَ لِلَّهِ تَعَالَى قُرْبَةً يَلْزَمُهُ الْوَفَاءُ بِهَا وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ النُّذُورَ تَتَعَلَّقُ عَلَى الْأَخْطَارِ وَعَلَى أَوْقَاتٍ مُسْتَقْبَلَةٍ لِأَنَّهُ مَعْلُومٌ أَنَّ قَوْلَهَا نذرت لك ما في بطني محررا أَرَادَتْ بِهِ بَعْدَ الْوِلَادَةِ وَبُلُوغِ الْوَقْتِ الَّذِي يَجُوزُ فِي مِثْلِهِ أَنْ يَخْلُصَ لِعِبَادَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَيَدُلُّ أَيْضًا عَلَى جَوَازِ النَّذْرِ بِالْمَجْهُولِ لأنها نذرته وهي لا تدرى ذكرا أَمْ أُنْثَى وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ لِلْأُمِّ ضَرْبًا مِنْ الْوِلَايَةِ عَلَى الْوَلَدِ فِي تَأْدِيبِهِ وَتَعْلِيمِهِ وَإِمْسَاكِهِ وَتَرْبِيَتِهِ لَوْلَا أَنَّهَا تَمْلِكُ ذَلِكَ لَمَا نَذَرَتْهُ فِي وَلَدِهَا وَيَدُلُّ أَيْضًا عَلَى أَنَّ لِلْأُمِّ تَسْمِيَةَ وَلَدِهَا وَتَكُونُ تَسْمِيَةً صَحِيحَةً وَإِنْ لَمْ يُسَمِّهِ الْأَبُ لِأَنَّهَا قَالَتْ وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مريم وَأَثْبَتَ اللَّهُ تَعَالَى لَوَلَدِهَا هَذَا الِاسْمَ وقَوْله تعالى فَتَقَبَّلَها رَبُّها بِقَبُولٍ حَسَنٍ الْمُرَادُ بِهِ وَاَللَّهُ
الصفحة 291