كتاب فتح ذي الجلال والإكرام بشرح بلوغ المرام ط المكتبة الإسلامية (اسم الجزء: 2)

ويدل لهذا أيضًا: أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يأمر المستحاضة التي كانت تدع الصلاة وقت استحاضتها بانية على الأصل، وهو أن الأصل أن الدم حيض فلم يأمرها بالإعادة، ويدل لهذا أيضًا أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يأمر عمار بن ياسر رضي الله عنه حين تمرغ على الصعيد من أجل التطهر من الجنابة وصلى بهذا ولم يأمره بالإعادة؛ لأنه كان جاهلًا وبنى على قياس ليس بصحيح بعد أن تبين الحكم بالنص، المهم أن هذه قاعدة تنفعك، ولكن هل نطلق العذر بهذا النوع من الجهل، أو نقول: إذا لم يفرط؟ هذه مسألة في الحقيقة تحتاج إلى تحر.
قد تقول: إنه إذا كان في بادية ولا يطرأ على باله وجوب هذا الشيء وليس عنده علماء وكل من حوله جهال ليس في الصلاة فقط حتى في الصيام مثلًا، لو فرض أن امرأة بلغت بالحيض لا بالسن ولم يطرأ على بالها ولا على بال أهلها أنها تصوم حتى تبلغ خمس عشرة سنة، وهي قد بلغت في السنة الثانية عشرة فتركت قبل الخامسة عشرة ثلاث رمضانات فإننا لا نأمرها بالقضاء، ونقول: استجدي النشاط على الطاعة في المستقبل، لكن لو كان هذا الذي جهل الأمر في مدينة العلم فيها واسع وكثير والعلماء كثيرون لكنه تهاون ولم يسأل، أو قيل له: اسأل، فقال: {يا أيها الذين ءامنوا لا تسئلوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم} [المائدة: 101]. فهذا ليس بمعذور؛ لأنه أمكنه ونبه على هذا ولم يفعل.
فالحاصل: أن الجهل المطبق الذي لا يطرأ على بال الإنسان وجوب الشيء وهو في غفلة تامة لا في تغافل، فهذا لا يلزم بقضاء ما فات من الواجب.
فإن قال قائل: هذا واضح فيما إذا كان الحق بين العبد وبين ربه، ولكنه إذا كان الحق يتعلق به حق الغير، كما لو كان لا يزكي على ماله جهلًا منه بوجوب الزكاة، فهل يلزمه أن يزكي لما مضى، أو نقول: هو على القاعدة؟
الظاهر: الثاني، لأن حق الفقراء في الزكاة ليس حقًا محضًا، بل هو أوجبه الله لهم، يعني: ليس كالذين الذي نقول: يجب على الإنسان قضاء الدين ولو طالت المدة، بل هذا حق أوجبه لهم ففيه شائبة أكبر من حق الله عز وجل من شائبة المخلوق، هل نقول مثل ذلك لو أن شخصًا ترك واجبًا من واجبات الحج، ولم يعلم أن فيه الفدية، هل نقول: تسقط عنه؟ الجواب: لا، وجه ذلك: أن الفدية ليس لها وقت معين، فإذا لم يكن لها وقت معين فمتى ذكر أو علم وجب عليه أن يقوم بها.
ومن فوائد هذا الحديث: حسن فهم الصحابة- رضي الله عنهم-، فهذا الرجل أعرابي لما أراد أن يقسم على أنه لا يعرف غير هذا؛ عدل عن الإقسام بالله إلى الإقسام بصفة تشعر بأنه ملتزم بما يقوله النبي صلى الله عليه وسلم لقوله: "والذي بعثك بالحق"، وهل نقول: إنه إذا حلف على شيء فإنه يختار من أسماء الله ما يناسبه؟ الجواب: في هذا تفصيل، أما إذا كان الشيء يحتاج إلى ذكر المناسب فليذكره، وأما إذا كان لا يحتاج فالقسم بالله أولى- يعني: بلفظ الله-.

الصفحة 10