كتاب المنتقى شرح الموطإ (اسم الجزء: 2)

صِيَامُ يَوْمِ عَرَفَةَ (ص) : (مَالِكٌ عَنْ أَبِي النَّضْرِ مَوْلَى عُمَرَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ عَنْ عُمَيْرٍ مَوْلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ عَنْ أُمِّ الْفَضْلِ بِنْتِ الْحَارِثِ «أَنَّ نَاسًا تَمَارَوْا عِنْدَهَا يَوْمَ عَرَفَةَ فِي صِيَامِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ بَعْضُهُمْ: هُوَ صَائِمٌ وَقَالَ بَعْضُهُمْ لَيْسَ بِصَائِمٍ فَأَرْسَلَتْ إلَيْهِ بِقَدَحِ لَبَنٍ وَهُوَ وَاقِفٌ عَلَى بَعِيرِهِ بِعَرَفَةَ فَشَرِبَ» ) .
ـــــــــــــــــــــــــــــQ [صِيَامُ يَوْمِ عَرَفَةَ]
(ش) : تَمَارِيهِمْ فِي صِيَامِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَوْمِ عَرَفَةَ هُوَ اخْتِلَافُهُمْ فِي ذَلِكَ وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ إنَّمَا ظَنَّ أَمْرًا فَنَزَعَ بِهِ، وَذَلِكَ أَنَّ صِيَامَ يَوْمِ عَرَفَةَ مُرَغَّبٌ فِيهِ لِغَيْرِ الْحَاجِّ مَمْنُوعٌ مَا يُخَافُ أَنْ يُضْعِفَهُ عَمَّا يَحْتَاجُ إلَيْهِ مِنْ الدُّعَاءِ الْمَخْصُوصِ بِعِبَادَتِهِ وَأَمَّا الصَّوْمُ فَلَيْسَ يَخْتَصُّ بِعِبَادَتِهِ فَوَجَبَ أَنْ يَمْتَنِعَ مِنْ كُلِّ مَا يُضْعِفُهُ عَنْ عِبَادَتِهِ.
وَقَدْ قَالَ ابْنُ وَهْبٍ: فِطْرُ يَوْمِ عَرَفَةَ لِلْحَاجِّ أَحَبُّ إلَيْنَا؛ لِأَنَّهُ أَقْوَى لَهُ قَالَ أَشْهَبُ وَلَا شَكَّ أَنَّهُ يُرْجَى فِي صِيَامِهِ لِغَيْرِ الْحَاجِّ مَا لَا يُرْجَى فِي صِيَامِ غَيْرِهِ، وَفِطْرُهُ لِلْحَاجِّ أَحَبُّ إلَيْنَا؛ لِأَنَّهُ يُضْعِفُ عَنْ الدُّعَاءِ وَقَدْ أَفْطَرَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْحَجِّ.
(فَصْلٌ) :
وَقَوْلُهُ فَأَرْسَلْت إلَيْهِ بِقَدَحِ لَبَنٍ تُرِيدُ أَنْ تَخْتَبِرَ بِذَلِكَ صَوْمَهُ وَتَعْلَمَ الصَّحِيحَ مِنْ قَوْلِ الْمُخْتَلِفِينَ فِي صَوْمِهِ وَهَذَا وَجْهٌ صَحِيحٌ فِي مَعْرِفَةِ أَحَدِ الْقِسْمَيْنِ وَهُوَ أَنْ يَشْرَبَهُ فَيُعْلَمَ بِذَلِكَ فِطْرُهُ لِعِلْمِهَا بِصِحَّتِهِ وَأَنَّهُ لَيْسَ هُنَاكَ مَا يَمْنَعُ مِنْ الصَّوْمِ إلَّا اخْتِيَارُ الْفِطْرِ وَأَمَّا لَوْ امْتَنَعَ مِنْ شُرْبِهِ فَلَيْسَ فِي ذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى صَوْمِهِ لِجَوَازِ أَنْ يَمْتَنِعَ مِنْ ذَلِكَ لِشِبَعٍ وَرِيٍّ وَغَيْرِ ذَلِكَ غَيْرَ أَنَّهُ كَانَ يُقَوِّي التَّجْوِيزَيْنِ، وَلَعَلَّهُ أَنْ يَكُونَ فِي رَدِّهِ مَا يَدُلُّ عَلَى صَوْمِهِ أَوْ يَتَسَبَّبُ بِهِ إلَى سُؤَالِهِ.
(فَصْلٌ) :
وَقَوْلُهُ وَهُوَ رَاكِبٌ عَلَى بَعِيرِهِ بِعَرَفَةَ فَشَرِبَ أَمَّا وُقُوفُهُ بِعَرَفَةَ فَالْأَظْهَرُ مِنْهُ أَنَّهُ كَانَ فِي وَقْتِ صَوْمٍ؛ لِأَنَّهُ لَا يَقِفُ بِعَرَفَةَ بَعْدَ غُرُوبِ الشَّمْسِ إلَّا رَيْثَمَا يَدْفَعُ وَأَيْضًا فَإِنَّهَا أَرَادَتْ أُمُّ الْفَضْلِ أَنْ تَعْلَمَ بِذَلِكَ أَمُفْطِرٌ هُوَ أَمْ صَائِمٌ وَلَا يَصِحُّ ذَلِكَ إلَّا فِي وَقْتِ صَوْمٍ يَقْتَضِي أَنَّهُ الْأَفْضَلُ لِوَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ لِلْحَجِّ تَعَلُّقًا بِالْمَالِ، وَالْإِنْفَاقُ فِيهِ أَفْضَلُ مِنْ الْإِمْسَاكِ وَفِي الْحَجِّ عَلَى الرَّاحِلَةِ عَوْنٌ عَلَى مُوَاصَلَةِ الدُّعَاءِ فَإِنَّ الْوَاقِفَ عَلَى قَدَمَيْهِ يَضْعُفُ عَنْ مُوَاصَلَةِ ذَلِكَ مِنْ زَوَالِ الشَّمْسِ إلَى غُرُوبِهَا وَلِهَذَا الْمَعْنَى اُسْتُحِبَّ الْفِطْرُ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ عَلَى مَا قَدَّمْنَاهُ وَشَرِبَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي ذَلِكَ الْمَوْقِفِ لِيُبَيِّنَّ لِلنَّاسِ فِطْرَهُ وَلَعَلَّهُ قَدْ عَلِمَ بِتَمَارِي أَصْحَابِهِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ فَأَرَادَ تَبْيِينَ الشَّرْعِ وَإِيضَاحَ الْحَقِّ وَرَفْعَ اللَّبْسِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
(ص) : (مَالِكٌ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ عَنْ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ أَنَّ عَائِشَةَ أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ كَانَتْ تَصُومُ يَوْمَ عَرَفَةَ قَالَ الْقَاسِمُ، وَلَقَدْ رَأَيْتهَا عَشِيَّةَ عَرَفَةَ يَدْفَعُ الْإِمَامُ، ثُمَّ تَقِفُ حَتَّى يَبْيَضَّ مَا بَيْنَهَا وَبَيْنَ النَّاسِ مِنْ الْأَرْضِ، ثُمَّ تَدْعُو بِشَرَابٍ فَتُفْطِرُ) ش قَوْلُهُ أَنَّ عَائِشَةَ كَانَتْ تَصُومُ يَوْمَ عَرَفَةَ يَقْتَضِي صِيَامَهَا إيَّاهُ عَلَى كُلِّ حَالٍ فِي حَجٍّ أَوْ عُمْرَةٍ غَيْرَ أَنَّ الْأَظْهَرَ مِنْ جِهَةِ الْمَقْصِدِ أَنَّهُ أَخْبَرَ عَنْ صِيَامِهَا إيَّاهُ فِي الْحَجِّ لَا سِيَّمَا وَقَدْ بَيَّنَ ذَلِكَ بِمَا بَعْدَهُ مِنْ الْكَلَامِ وَلَعَلَّ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قَدْ حَمَلَتْ فِعْلَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي ذَلِكَ عَلَى الْجَوَازِ وَالتَّسْهِيلِ عَلَى النَّاسِ وَأَنَّ الْفَضِيلَةَ فِي صِيَامِهِ فِي الْحَجِّ لِمَنْ أَطْلَقَ ذَلِكَ وَلَمْ يَمْنَعْهُ مِنْ إدَامَةِ الدُّعَاءِ وَالذِّكْرِ فَأَخَذَتْ فِي ذَلِكَ بِمَا رَأَتْهُ الْأَفْضَلَ مَعَ مَا عَلِمَتْ مِنْ قُوَّتِهَا مَعَهُ عَلَى إدَامَةِ الدُّعَاءِ وَالذِّكْرِ.
(فَصْلٌ) :
وَقَوْلُهُ وَلَقَدْ رَأَيْتُهَا عَشِيَّةَ عَرَفَةَ يَدْفَعُ الْإِمَامُ، ثُمَّ تَقِفُ حَتَّى يَبْيَضَّ مَا بَيْنَهَا وَبَيْنَ النَّاسِ بَيَّنَ بِذَلِكَ أَنَّ صَوْمَهَا يَوْمَ عَرَفَةَ كَانَ فِي الْحَجِّ وَأَرَادَ بِقَوْلِهِ عَشِيَّةَ عَرَفَةَ بَعْدَ غُرُوبِ الشَّمْسِ؛ لِأَنَّهُ وَقْتُ دَفْعِ الْإِمَامِ وَوَقْتُ الْفِطْرِ وَوُقُوفُهَا هُنَاكَ لِيَخْلُوَ لَهَا الْمَوْضِعُ لِكَشْفِ وَجْهِهَا لِلْفِطْرِ وَتَمَكُّنِهَا مِمَّا تُرِيدُ مِنْهُ دُونَ أَنْ

الصفحة 306