كتاب شرح القصيدة النونية = شرح الكافية الشافية - ط العلمية (اسم الجزء: 2)

الجواهر الفردة، وهي في الأصل نظرية يونانية قديمة، قال بها ديموكريتس:
الفيلسوف الطبيعي اليوناني، وقد بنوا عليها كثيرا من الأصول الإيمانية، فجعلوها عمدتهم في الاستدلال على حدوث العالم ووجود المحدث له، حتى أن أحد كبار الأشاعرة، وهو القاضي أبو بكر الباقلاني قد أوجب الإيمان بوجود الجوهر الفرد، بناء على أن الإيمان بوجود اللّه متوقف على ثبوته، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، كما بنوا على تلك النظرية ما يترتب على حدوث العالم من أن اللّه فاعل بالاختيار لا موجب بالذات كما يقوله الفلاسفة، وأنه لا تأثير لشي ء من الأسباب في مسبباتها، بل يخلق اللّه الأشياء عند وجود أسبابها لا بها.
و هكذا انحرف المتكلمون عن الجادة واعتمدوا في استدلالهم على وهم كاذب وربطوا به مصير العقائد الإيمانية كلها، مما جعل السلف الصالح المتمسكين بالكتاب والسنة يذمون الكلام وأهله ويرمونهم بالفسوق والابتداع والمروق عن الملة، ومما جعل أعداءهم من الفلاسفة ينتصرون عليهم ويتمكنون من مقاتلهم، فلا هم للإسلام نصروا ولا للفلاسفة كسروا، وهكذا يفعل الصديق الجاهل من الأذى والضرر ما لا يفعله العدو العاقل، فلا حول ولا قوة إلا باللّه العلي العظيم.
و بعد أن اتفق المتكلمون على تركب الأجسام من تلك الجواهر الفردة اختلفوا في أقل ما يتركب منه الجسم، فقال الأشاعرة أقله جوهران، فإذا انضم جوهر فرد إلى آخر حصل من مجموعهما الجسم عندهم، وحدوا الجسم بأنه الجوهر القابل للقسمة ولو في جهة واحدة فقط.
و أما المعتزلة فاعتبروا في الجسم أن يكون قابلا للقسمة في الجهات الثلاث، وعرفوه بأنه الطويل العريض العميق، ولكنهم اختلفوا في أقل ما يتركب منه الجسم، فقال النظام: يتركب من أجزاء غير متناهية بالفعل، وقال الجبائي من ثمانية أجزاء، وقال أبو الهذيل العلاف من ستة أجزاء إلى آخر ما حكاه عنهم الإمام الأشعري في كتابه (مقالات الإسلاميين).

الصفحة 27