كتاب شرح القصيدة النونية = شرح الكافية الشافية - ط العلمية (اسم الجزء: 2)

و شأن القلب ليس كشأن الجسم، بل هو دائم القلق والاضطراب لا يستقر على حال الا ويتطلع إلى أحسن منها، فهو يطلب ما يسكن إليه وينعم بقربه، كمثل العاشق الولهان، ولكنه لا يسكن إلى شي ء أبدا، بل يحب هذا الآن ثم ينتقل منه إلى غيره مما هو أطيب وألذ، وهكذا يظل متنقلا على مدى الأزمان، بل لو ظفر بكل مليحة ورئاسة لم يقر قراره وظل في اضطراب وجولان، بل لو حيزت له الدنيا كلها بما فيها من متع ورغائب لما قرت منه العينان، فلا قرار للقلب ولا سكن إلا بالوصول إلى محبوبه الأول وهو اللّه جل شأنه، فمعرفته والقرب منه هو غذاء القلوب وقوتها وسكنها وراحتها وغاية مطلوبها الذي لا تطمح إلى شي ء وراءه. فمهما جلت بفؤادك بين مغاني الهوى وارتدت له آنق المرعى، وجلبت له كل ما على الأرض من حسن فهو شاعر بالفقر والحرمان، لأنه مضطر إلى محبوبه الأعلى جل شأنه، فلا يتعوض عنه بأي حب كان.
فصلاحه وفلاحه ونعيمه وأنسه وراحته وسكنه في توحيد حبه للرحمن، فإذا ما أقفر من هذا الحب عاودته الحيرة والاضطراب ورجع إلى حاله من الاضطراب والجولان.
فصل في زهد أهل العلم والإيمان وإيثارهم الذهب الباقي على الخزف الفاني
لكن ذا الإيمان يعلم أن ه ... ذا كالظلال وكل هذا فان
كخيال طيف ما استتم زيارة ... الا وصبح رحيله بأذان
وسحابة طلعت بيوم صائف ... فالظل منسوخ بقرب زمان
وكزهرة وافى الربيع بحسنها ... أو لامعا فكلاهما أخوان
أو كالسراب يلوح للظمآن في ... وسط الهجير بمستوى القيعان
أو كالأماني طاب منها ذكرها ... بالقول واستحضارها بجنان
وهي الغرور رءوس أموال المفا ... ليس الألى اتجروا بلا أثمان

الصفحة 448