كتاب شرح القصيدة النونية = شرح الكافية الشافية - ط العلمية (اسم الجزء: 2)
يسمعها من يشاء من خلقه، بل كلامه في زعمهم هو ما سبقت الإشارة إليه من إفاضة المعاني على قلوب الأنبياء، ثم تجسم تلك المعاني في نفوسهم بواسطة القوة المتخيلة حروفا وألفاظا.
و كذلك نفوا إرادته ومشيئته لإيجاد العالم لأنه عندهم علة، والعلة يصدر عنها معلولها بطريق الإيجاب دون مشيئة أو اختيار، فهو سبحانه عندهم لم يقصد إلى خلق شي ء ولا اختاره، ولكن الأشياء تصدر عنه كصدور الحرارة عن النار.
و بما أن العالم معلول له والمعلول لا ينفك عن علته، فهو لازم له بالذات لا ينفك عنه في وقت من الأوقات، فإن العلة ما دامت باقية فمعلولها باق ببقائها لا يجوز عليه العدم والفناء، ومن هنا حكموا ببقاء الأفلاك بقاء سرمديا لا انتهاء له، وأنكروا ما وردت به النصوص الصريحة من انشقاق السماء وتناثر الكواكب يوم القيامة، لأنها عندهم غير قابلة للخرق والالتئام.
و كذلك قالوا أن اللّه عز وجل لا يعلم الأشياء الموجودة في هذا العالم بأعيانها، ولا يعلم ما يطرأ عليها من أحوال وتغيرات، فهو لا يعلم أعداد الأفلاك ولا مواقع النجوم ولا منازل الشمس والقمر، ولا يسمع أصوات المصوتين ولا يرى أشخاصهم، ولا يعلم أحوال الناس على التفصيل ولا سعيهم فيما يكسبونه من طاعات أو معاص، وكذلك لا علم له عندهم بما يتساقط من أوراق الأشجار أو بما ينبت فيها من أغصان، فعلم ذلك على التفصيل هو عندهم على اللّه مستحيل، وحجتهم في ذلك قائمة على التشغيب والتضليل، فإنهم قالوا كما قال أرسطو من قبل أن علمه بهذه الجزئيات المتغيرة المتكثرة يؤدي إلى التكثر والتغير في ذاته، لان العلم عندهم هو حصول المعلومات في نفس العالم بوجود ظلي مطابق للوجود الخارجي ومعلوم أن التغير والتكثر إمارة الإمكان، وهذا ينافي ما ثبت له من وجوب الوجود.
و لا شك أن إنكار الفلاسفة لعلم اللّه عز وجل بالجزئيات جحد صريح للنصوص القرآنية التي تخبر عن سعة علمه وشموله، وأنه لا يعزب عنه مثقال ذرة