كتاب شرح القصيدة النونية = شرح الكافية الشافية - ط العلمية (اسم الجزء: 2)
و غيره لا قدرة له على شي ء فهو الذي يخلق في العبد الطاعات من صلاة وصيام وحج وجهاد الخ، ويخلق فيه الفسوق وجميع المعاصي من شرك وزنى وقتل وسرقة الخ، فهذه كلها أفعال اللّه على الحقيقة لا يصح نسبتها إلى العبد إلا على وجه من المجاز، كما يقال هبت الريح وجرى النهر وطلعت الشمس، فالعبد لا قدرة له على فعل شي ء ولا اختيار له، بل هو مجبور على أفعال كالميت أدرج في أكفانه.
و مع ذلك فهو يلام على ما يخلقه اللّه فيه من ذنوب ويدخل بسببها نار الجحيم وهو في الحقيقة مظلوم لا ذنب له وإن بدا في صورة الظلوم الجاني، ولكنا مع ذلك نقول أنه ظالم لنفسه على جهة التأدب فقط مع اللّه عز وجل حتى لا ننسب إليه الظلم هذا هو التوحيد عند عامة هؤلاء الجبرية الذين خبثت طويتهم وساءت باللّه ظنونهم وأما من غلا منهم وزعم شهود الحقيقة الكونية من زنادقة الصوفية، فيرى أن أعمال العباد كلها طاعات لا معصية فيها، لأنها تنفيذ للإرادة الإلهية الشاملة، كما يقول في ذلك شاعرهم:
أصبحت منفعلا لما يختاره ... مني ففعلي كله طاعات
فانظر إلى هذا التوحيد عند هؤلاء القوم وما فيه من أنواع الشرك والكفر بل هو في حقيقته يبطل كل شرك وكفر، فإن الناس كلهم إلا قليلا منهم يقرون بأن اللّه هو خالق كل شي ء، وإن شئت دليلا على ذلك فاسأل أبا جهل وشيعته في الشرك والضلال، هل يعتقدون بوجود خالق مع اللّه لهذه الأكوان؟ فستجدهم جميعا مقرين بأن اللّه هو وحده الخلاق للإنسان وغيره من الموجودات.
فإذا ادعيتم أيها الجبرية الضلال أن الاعتقاد بانفراد اللّه بالخلق هو غاية التوحيد فقد أبطلتم وجود الشرك في العالم، لأن الناس كلهم يقرون بأن اللّه هو وحده الخلاق لا خالق غيره، اللهم إلا المجوس الثنوية الذين قالوا بإلهين، إله للخير وهو النور، وإله للشر وهو الظلمة.