كتاب السراج المنير في الإعانة على معرفة بعض معاني كلام ربنا الحكيم الخبير (اسم الجزء: 2)

رؤيتها فضلاً عن أن يراها كقول ذي الرمة:
إذا غير النأي (أي: البعد وفي نسخة الهجر) المحبين لم يكد
رسيس الهوى (أي: ثابته بمعنى الهوى الثابت) من حب مية يبرح
أي: يزول، والمعنى لم يقرب من البراح فضلاً عن أن يبرح.
تنبيه: في كيفية هذا التشبيه وجوه؛ أحدها: قال الحسن: إن الله تعالى ذكر ثلاثة أنواع من الظلمة؛ ظلمة البحر، وظلمة الأمواج، وظلمة السحاب؛ كذا الكافر له ظلمات ثلاثة: ظلمةالاعتقاد، وظلمة القول، وظلمة العمل، ثانيها: قال ابن عباس: شبه قلبه وسمعه وبصره بهذه الظلمات الثلاث، ثالثها: أن الكافر لا يدري ولا يدري أنه لا يدري ويعتقد أنه يدري، فهذه المراتب الثلاثة شبه تلك الظلمات الثلاث، رابعها: قلب مظلم في صدر مظلم في جسد مظلم، خامسها: أن هذه الظلمات متراكمة، فكذا الكافر لشدة إصراره على كفره، قد تراكمت عليه الضلالات حتى لو ذكر عنده أظهر الدلائل لم يفهمه.

{ومن لم يجعل الله} أي: الملك الأعظم {له نوراً فما له من نور} ، قال ابن عباس: من لم يجعل الله له ديناً وإيماناً فلا دين له، وقيل: من لم يهده الله فلا هادي له؛ لأنه تعالى قادر على ما يريد، ولما وصف تعالى أنوار القلوب قلوب المؤمنين وظلمات قلوب الجاهلين أتبع ذلك بدلائل التوحيد بقوله تعالى:
{ألم ترَ} أي: تعلم علماً يشبه المشاهدة في اليقين والوثاقة بالوحي والاستدلال {أن الله} أي: الحائز لصفات الكمال {يسبح له} أي: ينزهه عن كل شائبة نقص {من في السموات والأرض} لأن التسبيح لا يرى بالبصر بل يعلم بالقلب، وهذا استفهام والمراد به التقرير والبيان، وهذا التسبيح إما أن يكون المراد منه دلالته بخلق هذه الأشياء على كونه تعالى منزهاً عن النقائص موصوفاً بنعوت الجلال، أو يكون المراد منه في حق البعض الدلالة على التنزيه، وفي حق الباقين النطق باللسان؛ قال الرازي: والأول أقرب؛ لأن القسم الثاني متعذر؛ لأن في الأرض من لا يكون مكلفاً لا يسبح بهذا المعنى، والمكلفون منهم من لا يسبح أيضاً بهذا المعنى كالكفار، وأما القسم الثالث: وهو أن يقال: إن من في السموات وهم الملائكةيسبحون باللسان، وأما الذين في الأرض فمنهم من يسبح باللسان، ومنهم من يسبح على لسان الدلالة، فهذا يقتضي استعمال اللفظ الواحد في الحقيقة والمجاز معاً وهو غير جائز أي: عند أكثر العلماء فلم يبق إلا القسم الأول وهو أن هذه الأشياء مشتركة في أن أجسامها وصفاتها دالة على تنزيه الله تعالى وقدرته وإلهيته وتوحيده وعدله، فسمي ذلك تنزيهاً توسعاً.

فإن قيل: فالتسبيح بهذا المعنى حاصل لجميع المخلوقات، فما وجه تخصيصه ههنا بالعقلاء؟ أجيب: بأن خلقة العقلاء أشد دلالة على وجود الصانع سبحانه وتعالى؛ لأن العجائب والغرائب في خلقهم أكثر، وهي العقل والنطق والفهم، ولما كان أمر الطير دلالته أعجب، ولأنها قد تكون بين السماء والأرض فتكون خارجة عن حكم من فيهما خصها بالذكر من جملة الحيوان بقوله تعالى: {والطير صافات} أي: باسطات أجنحتها في جو السماء لا شبهة في أنه لا يمسكها إلا الله تعالى وإمساكه لها في الجو مع أنها أجرام ثقيلة وإقداره لها فيه على القبض والبسط حجة قاطعة على كمال قدرته تعالى.
واختلف في عود الضمائر في قوله تعالى: {كل} أي: من المخلوقات {قد علم

الصفحة 628