كتاب السراج المنير في الإعانة على معرفة بعض معاني كلام ربنا الحكيم الخبير (اسم الجزء: 2)

وإذا سمع جرساً صاح، وحال النمل في الذهاب إلى مواضعها على خط مستقيم يحفظ بعضهاً بعضاً أمر عجيب، وإذا كشف عن بيوتها الساتر الذي كان يسترها، وكان تحته بيض لها، فإن كل نملة تأخذ بيضة في فمها وتذهب في أسرع وقت، والاستقصاء في هذا الباب مذكور في كتاب طبائع الحيوان، والمقصود في ذلك أن الفضلاء من العقلاء يعجزون عن أمثال تلك الحيل وإذا كان كذلك فلم لا يجوز أن يقال: إنها تسبح الله تعالى وتثني عليه، وإن كانت غير عارفة بسائر الأمور التي تعرفها الناس، ويؤيد هذا قوله تعالى: {ولكن لا تفقهون تسبيحهم} (الإسراء، 44) ، وقوله صلى الله عليه وسلم «إن نوحاً عليه السلام أوصى بنيه عند موته بلا إله إلا الله فإن السموات السبع والأرضين السبع لو كن في حلقة مبهمة قصمتهن، وسبحان الله وبحمده فإنها صلاة كل شيء، وبها يرزق كل شيء، وقال الغزالي في الإحياء: روي «أن رجلاً جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: تولت عني الدنيا، وقلت ذات يدي، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم فأين أنت من صلاة الملائكة وتسبيح الخلائق، وبها يرزقون؛ قال: فقلت: وما هي يا رسول الله، قال: قل سبحان الله وبحمده سبحان الله العظيم
أستغفر الله مائة مرة ما بين طلوع الفجر إلى أن تصلي الصبح تأتيك الدنيا راغمة صاغرة، ويخلق الله عز وجل من كل كلمة ملكاً يسبح الله إلى يوم القيامة لك ثوابه» ، ثم نبه سبحانه وتعالى بقوله:

{ولله ملك السموات والأرض} على أن الكل منه لأن كل ما سواه ممكن ومحدث، والممكن والمحدث لا يوجد إلا عند الانتهاء إلى القديم الواجب الوجود ويدخل في هذا جميع الأجرام والأعراض، وأفعال العباد وأحوالهم وخواطرهم، وفي قوله تعالى: {وإلى الله} أي: الذي له الإحاطة بكل شيء {المصير} دليل على المعاد وأنه لا بد من مصير الكل إليه بعد الفناء. والرؤية في قوله تعالى:

{ألم ترَ} نظرية {أن الله} أي: ذا الجلال والجمال {يزجي سحاباً} أي: يسوقه برفق بعد أن أنشأه من العدم تارة من السفل وتارة من العلو ضعيفاً رقيقاً متفرقاً؛ قال أبو حيان: وهو اسم جنس واحده سحابة والمعنى يسوق سحابة إلى سحابة، وهو معنى قوله تعالى: {ثم يؤلف بينه} أي: بين أجزائه بعد أن كان قطعاً في جهات مختلفة، فيجعل القطع المتفرقة قطعة واحدة، {ثم يجعله ركاماً} في غاية العظمة متراكماً بعضه على بعض بعد أن كان في غاية الرقة {فترى} أي: في تلك الحالة المستمرة {الودق} أي: المطر {يخرج من خلاله} أي: من فتوقه التي حدثت بالتراكم وإرهاص بعضه في بعض.
فإن قيل: بين إنما تدخل على مثنى فما فوقه فلم دخلت هنا على مفرد؟ أجيب: بأن المراد بالسحاب الجنس فعاد الضمير على حكمه أو على حذف مضاف أي: بين أجزائه كما مر وبين قطعه فإن كل قطعة سحابة، وقرأ السوسي فترى في الوصل بالإمالة بخلاف عنه والباقون بالفتح، وأما في الوقف فأبو عمرو وحمزة والكسائي بالإمالة محضة وورش بالإمالة بين بين، والباقون بالفتح، {وينزل من السماء} أي: من الغمام وكل ما علا فهو سماء {من جبال فيها} أي: في السماء وهي السحاب الذي صار بعد تراكمه كالجبال وقوله تعالى: {من برد} بيان للجبال، والمفعول محذوف أي: ينزل مبتدئاً من السماء من جبال فيها من برد برداً، فمن الأولى: لابتداء الغاية باتفاق، والثانية: للتبعيض، والثالثة: للبيان، ويجوز أن تكون الثانية لابتداء الغاية أيضاً

الصفحة 630