كتاب السراج المنير في الإعانة على معرفة بعض معاني كلام ربنا الحكيم الخبير (اسم الجزء: 2)

فلهذا ذكره الله تعالى، ثالثها: المراد من الدابة التي تدب على وجه الأرض ومسكنها هنالك، فتخرج الملائكة والجن، رابعها: لما كان الغالب من هذه الحيوانات كونها مخلوقة من الماء إما لأنها متولدة من النطفة، وإما لأنها لا تعيش إلا بالماء أطلق عليها لفظ كل تنزيلاً للغالب منزلة الكل.

فإن قيل: لم نكر الماء في قوله تعالى {من ماء} وعرفه في قوله تعالى {من الماء كل شيء حي} (الأنبياء، 30)
أجيب: بأنه جاء ههنا منكراً لأن المعنى خلق كل دابة من نوع من الماء مختصاً بتلك الدابة، وعرفه في قوله تعالى: {من الماء كل شيء حيّ} ؛ لأن المقصود هناك كونهم مخلوقين من هذا الجنس، وههنا بيان أن ذلك الجنس.
ينقسم إلى أنواع كثيرة {فمنهم} أي: الدواب {من يمشي على بطنه} . كالحية والحيتان والديدان واستعير المشي للزحف على البطن كما قالوا في الأمر المستمر: قد مشى هذا الأمر ويقال فلان ما مشى له أمر أو سمي بذلك للمشاكلة بذكر الزاحف مع الماشي {ومنهم من يمشي على رجلين} أي: فقط كالآدمي والطير {ومنهم من يمشي عل أربع} أي: من الأيدي والأرجل كالنعم والوحش فإن قيل: لم حصر القسمة في هذه الثلاثة أنواع من المشي، وقد نجد من يمشي على أكثر من أربع كالعناكب والعقارب والحيوان الذي له أربع وأربعون رجلاً الذي يسمى دخال الأذن؟ أجيب: بأن هذا القسم الذي لم يذكر كالنادر، فكان ملحقاً بالعدم، وقال النقاش: إنه اكتفى بذكر ما يمشي على أربع عن ذكر ما يمشي على أكثر من أربع؛ لأن جميع الحيوان إنما اعتماده على أربع وهي قوائم مشيه وكثرة الأرجل لبعض الحيوان زيادة في الخلقة لا يحتاج ذلك الحيوان في مشيه إلى جميعها وبأن قوله تعالى: {يخلق الله ما يشاء} كالتنبيه على سائر الأقسام فإن قيل: لم جاءت الأجناس الثلاثة على هذا الترتيب؟.
أجيب: بأنه قدم ما هو أعرق في القدرة وهو الماشي بغير آلة مشي من أرجل أو قوائم، ثم الماشي على رجلين، ثم الماشي على أربع.
تنبيه: إنما أطلق من على غير العاقل لاختلاطه بالعاقل في المفصل بمن، وهو كل دابة وكان التعبير بمن أولى ليوافق اللفظ، ولما كانت هذه الأدلة ناظرة إلى البعث أتم نظر وكانوا منكرين له أكد ذلك بقوله تعالى: {إن الله} أي: الذي له الكمال المطلق {على كل شيء} من ذلك وغيره {قدير} لأنه القادر على الكل والعالم بالكل، فهو المطلع على أحوال هذه الحيوانات، فأي عقل يقف عليها، وأي خاطر يصل إلى ذرة من أسرارها؛ بل هو الذي يخلق ما يشاء كيف يشاء، ولا يمنعه منه مانع، ولما اتضح بهذا ما لله تعالى من صفات الكمال والتنزه عن كل شائبة نقص وقامت أدلة الوحدانية على ساق واتسقت براهين الألوهية أيّ اتساق؛ قال تعالى مترجماً لتلك الأدلة:

{لقد أنزلنا} أي: في هذه السورة وما تقدمها بما لنا من العظمة {آيات} أي: مما لنا من الحكم والأحكام والأدلة والأمثال {مبينات} للحقائق بأنواع الدلائل التي لا خفاء فيها {والله} أي: الملك الأعظم {يهدي من يشاء} من عباده {إلى صراط} طريق {مستقيم} هو دين الإسلام الموصل إلى دار الحق والفوز بالجنة، ولما ذكر تعالى دلائل التوحيد أتبعه بذم قوم اعترفوا بالدين بألسنتهم ولكنهم لم يفعلوه بقلوبهم، فقال تعالى:
{ويقولون} أي: الذين ذمهم الله تعالى: {آمنا بالله} أي:

الصفحة 632