كتاب السراج المنير في الإعانة على معرفة بعض معاني كلام ربنا الحكيم الخبير (اسم الجزء: 2)

عندهم أو متوقعاً، وكل منهما باطل لأن منصب نبوته وفرط أمانته تمنعه فتعين الأول فظلمهم يعم خلل عقيدتهم وميل نفوسهم إلى الحيف وضمير الفصل لنفي ذلك عن غيرهم فإن قيل: إذا خافوا أن يحيف الله عليهم ورسوله فقد ارتابوا في الدنيا، وإذا ارتابوا ففي قلوبهم مرض والكل واحد فأي فائدة في التعديد؟
أجيب: بأن قوله تعالى: {في قلوبهم مرض} أشار به إلى النفاق، وقوله تعالى: {أم ارتابوا} إشارة إلى أنهم بلغوا في حب الدنيا حيث يتركون الدين بسببه فإن قيل: هذه الثلاثة متغايرة ولكنها متلازمة فكيف أدخل عليها كلمة أم؟ أجييب بأنه تعالى نبههم على كل واحد من هذه الأوصاف فكان في قلوبهم مرض وهو النفاق وكان فيها شك وارتياب وكانوا يخافون الحيف من الرسول، وكل واحد من ذلك كفر ونفاق، واختلفوا في سبب نزول هذه الآية، فقال مقاتل: نزلت في بشر المنافق وكان قد خاصم يهودياً في أرض، فقال اليهودي: نتحاكم إلى محمد صلى الله عليه وسلم وقال المنافق: نتحاكم إلى كعب بن الأشرف فإن محمداً يحيف علينا، فأنزل الله تعالى هذه الآية وقد مضت قصتها في سورة النساء.

وقال الضحاك: نزلت في المغيرة بن وائل كان بينه وبين علي رضي الله تعالى عنه أرض تقاسماها فوقع إلى علي ما لا يصيبه الماء إلا بمشقة فقال المغيرة: بعني أرضك فباعه إياها وتقابضا، فقيل للمغيرة: أخذت سبخة لا ينالها الماء، فقال لعلي: اقبض أرضك فإنما أشتريتها إن رضيتها ولم أرضها، فقال علي: بل اشتريتها ورضيتها وقبضتها وعرفت حالها لا أقبلها منك، ودعاه إلى أن يخاصمه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال المغيرة: أما محمد فلا نأتيه ولا أحاكم إليه فإنه يبغضني وأنا أخاف أن يحيف عليّ، فنزلت الآية.
وقال الحسن: نزلت في المنافقين الذين كانوا يظهرون الإيمان ويسرون الكفر، ولما نفى تعالى عنهم الإيمان الكامل بما وصفهم به كان كأنه سئل عن حال المؤمنين، فقال تعالى:
{إنما كان} أي: دائماً {قول المؤمنين} أي: العريقين في ذلك الوصف {إذا دعوا} أي: من أي داع كان {إلى الله} أي: إلى ما أنزل الملك الذي لا كفء له من أحكامه {ورسوله} الذي لا ينطق عن الهوى {ليحكم} أي: الرسول {بينهم} بما أراه الله تعالى أي حكومة من الحكومات لهم أو عليهم {أن يقولوا سمعنا} أي: الدعاء {وأطعنا} أي: بالإجابة لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم وهذا ليس على طريق الخبر ولكنه تعليم أدب الشرع بمعنى أن المؤمنين ينبغي أن يكونوا هكذا {وأولئك} أي: العالوا الرتبة {هم المفلحون} الذين وصفهم الله تعالى في أول المؤمنين، وهذا يدل على عادته تعالى في اتباع ذكر المحق المبطل والتنبيه على ما ينبغي بعد إنكاره لما لا ينبغي، ولما رتب تعالى الفلاح على هذا النوع الخاص أتبعه عموم الطاعة بقوله تعالى:

{ومن يطع الله} أي: الذي له الأمر كله {ورسوله} أي: فيما ساءه وسره {ويخش الله} أي: فيما صدر عنه من الذنوب في الماضي ليحمله ذلك على كل خير {ويتقه} أي: الله فيما بقي من عمره بأن يجعل بينه وبين ما يسخطه وقاية من المباحات فيتركها ورعاً {فأولئك} أي: العالوا الرتبة {هم الفائزون} بما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر من النعيم المقيم، وعن ابن عباس في تفسير هذه الآية ومن يطع الله في فرائضه ورسوله في سننه ويخش الله على ما مضى من ذنوبه ويتقه فيما يستقبل، وعن بعض

الصفحة 634