كتاب السراج المنير في الإعانة على معرفة بعض معاني كلام ربنا الحكيم الخبير (اسم الجزء: 2)

ولم يصلوا، وإن أبصرهم أحد لبثوا وصلوا خوفاً، فنزلت هذه الآية، فكان المؤمن بعد نزولها لا يخرج لحاجةحتى يستأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان المنافقون يخرجون بغير إذن، قال مجاهد: إن إذن الإمام يوم الجمعة أن يشير بيده قال أهل العلم: كذلك كل أمر اجتمع عليه المسلمون مع الإمام لا يخالفونه ولا يرجعون عنه إلا بإذن، وهذا إذا لم يكن سبب يمنعه من المقام، فإن حدث سبب يمنعه عن المقام كأن يكونوا في المسجد فتحيض منهم امرأة أو يجنب الرجل أو يعرض له مرض فلا يحتاج إلى الاستئذان، ولما كان اعتبار الإذن كالمصدق لصحة كمال الإيمان، والمميز للمخلص فيه أعاده مؤكداً على أسلوب أبلغ بقوله تعالى: {إن الذين يستأذنونك} أي: تعظيماً لك ورعاية للأدب {أولئك} أي: العالو الرتبة {الذين يؤمنون بالله} أي: الذي له الأمر كله {ورسوله} فإنه يفيد أن المستأذن مؤمن لا محالة وأن الذاهب بغير إذن ليس كذلك، ولما نص على الاستئذان تسبب عن ذلك إعلامه صلى الله عليه وسلم بما يفعل إذ ذاك بقوله تعالى: {فإذا استأذنوك لبعض شأنهم} وهو ما تشتد الحاجة إليه، {فأذن لمن شئت منهم} بالانصراف أي: إن شئت فأذن، وإن شئت فلا تأذن، ففي ذلك تفويض الأمر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم واستدل به
على أن بعض الأحكام مفوّض إلى رأيه.

قال الضحاك ومقاتل: المراد عمر بن الخطاب وذلك «أنه استأذن في غزوة تبوك في الرجوع إلى أهله، فأذن له وقال: انطلق فوالله ما أنت بمنافق يريد أن يسمع المنافقون ذلك الكلام، فلما سمعوا ذلك قالوا: ما بال محمد إذا استأذنه أصحابه أذن لهم وإذا استأذناه أبى، فوالله ما نراه يعدل» ، قال ابن عباس: «إن عمر استأذن النبي صلى الله عليه وسلم في العمرة فأذن له ثم قال: يا أبا حفص لا تنسنا من صالح دعائك» ، ولما كان في الاستئذان ولو لعذر قصور؛ لأن فيه تقديماً لأمر الدنيا على أمر الدين أمره الله تعالى بأن يستغفر لهم بقوله تعالى: {واستغفر لهم الله} أي: الذي له الأمر كله بعد الإذن ليكون ذلك شاملاً لمن صحت دعواه وغيره، ثم علل ذلك ترغيباً في الاستغفار وتطييباً لقلوب أهل الأوزار بقوله تعالى: {إن الله} أي: الذي لا يخفى عليه شيء {غفور} أي: لفرطات العباد {رحيم} أي: بالتستر عليهم، ولما أظهرت هذه السورة بعمومها، وهذه الآيات بخصوصها من شرف الرسول ما أبهر العقول صرح بتفخيم شأنه وتعظيم مقامه بقوله تعالى:
{لا تجعلوا} أي: يا أيها الذين آمنوا {دعاء الرسول بينكم كدعاء بعضكم بعضاً} قال سعيد بن جبير وجماعة: معناه: لا تنادوه باسمه فتقولوا: يا محمد، ولا بكنيته فتقولوا: يا أبا القاسم، بل نادوه وخاطبوه بالتوقير، فقولوا: يا رسول الله يا نبي الله، وعلى هذا يكون المصدر مضافاً لمفعوله، وقال المبرد والقفال: لا تجعلوا دعاءه إياكم كدعاء بعضكم لبعض، فتتباطؤون عنه كما يتباطأ بعضكم عن بعض إذا دعاه لأمر بل يجب عليكم المبادرة لأمره، ويؤيده قوله تعالى: {فليحذر الذين يخالفون عن أمره} (النور، 63) ، وعلى هذا يكون المصدر مضافاً للفاعل، وقال ابن عباس: احذروا دعاء الرسول عليكم إذا أسخطتموه، فإن دعاءه موجب ليس كدعاء غيره، وروي عنه أيضاً: لا ترفعوا أصواتكم في دعائه، وهو المراد من قوله: {إن الذين يغضون أصواتهم عند رسول الله} (الحجرات، 3) ، وقول المبرد كما قال ابن عادل: أقرب إلى نظم الآية.
ولما كان بعضهم يظهر الموافقة ويبطن المخالفة

الصفحة 644