كتاب السراج المنير في الإعانة على معرفة بعض معاني كلام ربنا الحكيم الخبير (اسم الجزء: 2)

عليه؛ لأنه لا يوصف بالرحمة والمغفرة إلا القادر على العقوبة، أو هو تنبيه على أنهم استوجبوا بمكابرتهم هذه أن يصب عليهم العذاب صباً، ولكن صرف ذلك عنهم؛ لأنه غفور رحيم يمهل ولا يعاجل.
الشبهة الثالثة: قوله تعالى:
{وقالوا ما لهذا الرسول} أي: ما لهذا الذي يزعم الرسالة، وفيه استهانة وتهكم وتصغير لشأنه، وتسميته بالرسول سخرية منه كأنهم قالوا: ما لهذا الزاعم أنه رسول، ونحوه قول فرعون: {إن رسولكم الذي أرسل إليكم لمجنون} (الشعراء، 27) ، أي: إن صح أنه رسول الله فما باله حاله مثل حالنا {يأكل الطعام} أي: كما نأكله {ويمشي} أي: ويتردد {في الأسواق} لطلب المعاش كما نمشي، فلا يجوز أن يمتاز عنا بالنبوة يعنون: أنه يجب أن يكون ملكاً مستغنياً عن الأكل والشرب والتعيش، وكذلك كانوا يقولون له: لست أنت بملك؛ لأنك تأكل الطعام، والملك لا يأكل، ولأن الملك لا يتسوق وأنت تتسوق، وما قالوه فاسد؛ لأن أكله الطعام لكونه آدمياً ومشيه في الأسواق لتواضعه، وكان ذلك صفته في التوراة، ولم يكن صخاباً في الأسواق، وليس شيء من ذلك ينافي النبوة، ولأنه لم يدع أنه ملك من الملوك، ثم نزلوا عن اقتراحهم أن يكون ملكاً إلى اقتراح أن يكون إنساناً معه ملك حتى يسانده في الإنذار والتخويف، فقالوا: {لولا} أي: هلا {أنزل إليه ملك} أي: يصدقه ويشهد له {فيكون معه نذيراً} أي: داعياً، ثم نزلوا أيضاً إلى أنه لم يكن مرفوداً بملك، فليكن مرفوداً بكنز، فقالوا:
{أو يلقى إليه كنز} أي: ينزل عليه كنز من السماء ينفقه فلا يحتاج إلى المشي في الأسواق لطلب المعاش، ثم نزلوا فاقتنعوا بأن يكون رجلاً له بستان، فقالوا: {أو تكون له جنة} أي: بستان {يأكل منها} أي: إن لم يلق إليه كنز فلا أقل أن يكون له بستان كالمياسير فيتعيش بريعه، وقرأ حمزة والكسائي بالنون أن نأكل نحن منها فيكون له مزية علينا بها، والباقون بالياء وقوله تعالى: {وقال الظالمون} وضع فيه الظاهر موضع المضمر إذ الأصل وقالوا تسجيلاً عليهم بالظلم فيما قالوا {إن} أي: ما {تتبعون إلا رجلاً مسحوراً} أي: مخدوعاً مغلوباً على عقله، وقيل: مصروفاً عن الحق، ولما أنهى تعالى ما ذكر من أقوالهم الناشئة عن ضلالهم التفت سبحانه وتعالى إلى رسوله صلى الله عليه وسلم مسلياً له بقوله تعالى:
{انظر} أي: يا أفضل الخلق {كيف ضربوا لك الأمثال} أي: بالمسحور والمحتاج إلى ما ينفقه وإلى ملك يقوم معه بالأمر {فضلوا} أي: بذلك عن جميع طرق الهدى {فلا يستطيعون} أي: في الحال ولا في المآل بسبب الضلال {سبيلاً} أي: سلوك سبيل من السبل الموصلة إلى ما يستحق أن يقصد، بل هم في مجاهل موحشة وفيافي مهلكة، ولما أثبت أنهم لا علم لهم ولا قدرة ولا يمن ولا بركة أثبت لنفسه سبحانه وتعالى ما يستحق من الكمال الذي يفيض به على من يشاء من عباده ما يشاء بقوله تعالى:
{تبارك} أي: ثبت ثباتاً مقترناً باليمن والبركة لا ثبات إلا هو {الذي إن شاء} فإنه لا مكره له {جعل لك} أي: في الدنيا {خيراً من ذلك} أي: من الذي قالوه على طريق التهكم من الكنز والبستان، وقوله تعالى: {جنات} بدل من خيراً، ويجوز أن يكون منصوباً بإضمار أعني، ثم وصفها بقوله تعالى: {تجري من تحتها الأنهار} أي: تكون أرضها عيوناً نابعة أي: في أي موضع أريد منه إجراء نهر جرى، فهي

الصفحة 649