كتاب السراج المنير في الإعانة على معرفة بعض معاني كلام ربنا الحكيم الخبير (اسم الجزء: 2)

القيامة» .
فإن قيل: قابل التعجيل في الآية بالاستعجال، وكان مقتضى النظم أن يقابل التعجيل بالتعجيل والاستعجال بالاستعجال، أجيب: بأنَّ تقدير الكلام: ولو يعجل الله للناس الشر تعجيله للخير حين استعجلوه استعجالاً كاستعجالهم بالخير، فحذف منه ما حذف لدلالة الباقي عليه، وقال في «الكشاف» : أصل هذا الكلام: ولو يعجل الله للناس الشر تعجيله لهم بالخير إلا أنه وضع استعجالهم بالخير موضع تعجيله لهم بالخير شعاراً بسرعة إجابته لهم وإسعافه بطلبتهم، حتى كان استعجالهم بالخير تعجيل لهم.A
ولما حكى تعالى عنهم أنهم يستعجلون في نزول العذاب، بين أنهم كاذبون في ذلك الطلب والاستعجال بقوله تعالى:
{وإذا مس الإنسان} أي: الكافر {الضرّ} أي: المرض والفقر {دعانا لجنبه} أي: على جنبه مضطجعاً {أو قاعداً أو قائماً} وفائدة التردّد تعميم الدعاء لجميع الأحوال أو لأصناف المضار، والمعنى: أنّه لو نزل بالإنسان أدنى شيء يكرهه ويؤذيه فإنه يتضرّع إلى الله تعالى في إزالته عنه، وفي دفعه عنه، وذلك يدل على أنه ليس صادقاً في طلب الاستعجال {فلما كشفنا عنه ضرّه} أي: أزلنا عنه ما نزل به، {مرّ} أي: مضى على ما كان عليه من الكفر، {كأن لم يدعنا} أي: كأنه، فأسقط الضمير على سبيل التخفيف، ونظيره قوله تعالى: {كأن لم يلبثوا} (يونس، 45)
. {إلى ضرَ مسه} . قال الحسن: نسي ما كان دعا الله فيه، وما صنع الله به في إزالة ذلك البلاء عنه، وإنما حمل الإنسان في هذه الآية على الكافر؛ لأنَّ العمل المذكور لا يليق بالمسلم البتة، وقول بعضهم: كل موضع في القرآن ورد فيه ذكر الإنسان فالمراد هو الكافر مردود، فقد قال تعالى: {هل أتى على الإنسان حين من الدهر} (الإنسان: 1)
. وقال تعالى: {ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين} (المؤمنون: 12)
. وقال تعالى: {ولقد خلقنا الإنسان ونعلم ما توسوس به نفسه} (ق، 16) وأما المؤمن إذا ابتلي ببلية ومحنة، وجب عليه رعاية أمورٍ:
أوّلها: أن يكون راضياً بقضاء الله تعالى غير معترض بالقلب واللسان عليه، وإنما وجب عليه ذلك؛ لأنّه تعالى مالك على الإطلاق، وملك بالاستحقاق، فله أن يفعل في ملكه ما شاء، ولأنه تعالى حكيم على الإطلاق، وهو منزه عن فعل العبث، فكل ما فعله فهو حكمة وصواب، فيجب عليه الصبر وترك القلق، فإن أبقى عليه تلك المحنة فهو عدل، وإن أزالها عنه فهو فضل.
وثانيها: أنه في ذلك الوقت إن اشتغل بذكر الله تعالى، والثناء عليه بدلاً عن الدعاء، كان أفضل لقوله صلى الله عليه وسلم حكاية عن الله تعالى: «من شغله ذكري عن مسألتي أعطيته أفضل ما أعطي السائلين» ، ولأنّ الاشتغال بالذكر اشتغال بالحق والاشتغال بالدعاء، اشتغال بطلب حظ النفس، ولا شك أنَّ الأوّل أفضل. وثالثها:

أنه تعالى إذا أزال عنه تلك البلية وجب عليه أن يبالغ في الشكر، وأن لا يخلو عن ذلك الشكر في السراء والضراء، وأحوال الشدّة والرخاء، فهذا هو الطريق الصحيح عند نزول البلاء، وحينئذ يكون المؤمن على الضدّ من الكافر؛ لأنَّ الكافر منهمك في الشهوات، والإعراض عن العبادات. كما قال تعالى: {كذلك} أي: مثل ما زين لهؤلاء الكافرين هذا العمل القبيح. {زين للمسرفين} أي: المشركين {وما كانوا يعملون} من القبائح لإعراضهم عن الذكر واتباعهم الشهوات، وإنما سمي الكافر مسرفاً؛ لأنّه أتلف نفسه بتضييعها في عبادة الأوثان، وأتلف ماله في البحيرة، والسائبة، والوصيلة، والمزين هو الله تعالى؛ لأنه مالك الملك، والخلق كلهم عبيده يتصرّف

الصفحة 8