كتاب تبيين الحقائق شرح كنز الدقائق وحاشية الشلبي (اسم الجزء: 2)

عَنْهُ لَا يَزِيدُ؛ لِأَنَّهُ ذِكْرٌ مَنْظُومٌ فَتُخِلُّ بِهِ الزِّيَادَةُ وَالنُّقْصَانُ كَالتَّشَهُّدِ وَالْأَذَانِ وَلَنَا أَنَّ أَجِلَّاءَ الصَّحَابَةِ كَانُوا يَزِيدُونَ عَلَيْهَا وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ يَقُولُ إذَا اسْتَوَتْ بِهِ رَاحِلَتُهُ زِيَادَةً عَلَى الْمَرْوِيِّ لَبَّيْكَ لَبَّيْكَ وَسَعْدَيْكَ وَالْخَيْرُ بَيْنَ يَدَيْك وَالرُّغْبَا إلَيْك وَالْعَمَلُ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ وَعَنْ «جَابِرٍ أَنَّهُ رَوَى تَلْبِيَةَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَالَ وَالنَّاسُ يَزِيدُونَ ذَا الْمَعَارِجِ وَنَحْوَهُ مِنْ الْكَلَامِ وَالنَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَسْمَعُ فَلَا يَقُولُ لَهُمْ شَيْئًا» وَعَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ بَعْدَهَا لَبَّيْكَ ذَا النَّعْمَاءِ وَالْفَضْلِ الْحَسَنِ لَبَّيْكَ مَرْغُوبًا وَمَرْهُوبًا إلَيْك وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ زِيَادَةٌ كَثِيرَةٌ وَعَنْ غَيْرِهِ مِنْ أَجِلَّاءِ الصَّحَابَةِ؛ وَلِأَنَّ الْمَقْصُودَ الثَّنَاءُ وَإِظْهَارُ الْعُبُودِيَّةِ فَلَا يُمْنَعُ مِنْ الزِّيَادَةِ بِخِلَافِ التَّشَهُّدِ، فَإِنَّهُ فِي الصَّلَاةِ، وَهِيَ لَا تَحْتَمِلُ الزِّيَادَةَ فِي وَسَطِهَا؛ لِأَنَّهَا أَفْعَالٌ وَأَذْكَارٌ مَحْصُورَةٌ؛ وَلِهَذَا لَا يُكَرَّرُ فِيهَا التَّشَهُّدُ وَالتَّلْبِيَةُ تُكَرَّرُ، وَإِنْ كَانَ فِي الْأَخِيرِ زَادَ مَا شَاءَ؛ لِأَنَّهَا فَرَغَتْ فَلَا يُمْنَعُ مِنْ الدَّعَوَاتِ وَالْأَذْكَارِ وَبِخِلَافِ الْأَذَانِ؛ لِأَنَّهُ لِلْإِعْلَامِ وَلَا يَحْصُلُ بِغَيْرِ الْمُتَعَارَفِ وَلَا يَنْقُصُ عَنْهُ؛ لِأَنَّهُ هُوَ الْمَنْقُولُ عَنْهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - بِاتِّفَاقِ الرُّوَاةِ وَقَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «خُذُوا مَنَاسِكَكُمْ عَنِّي» قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - (فَإِذَا لَبَّيْت نَاوِيًا فَقَدْ أَحْرَمْت) وَهَذَا تَصْرِيحٌ بِأَنَّهُ يَكُونُ شَارِعًا عِنْدَ وُجُودِهِمَا وَلَمْ يُبَيِّنْ بِأَيِّهِمَا يَصِيرُ شَارِعًا
وَذَكَرَ حُسَامُ الدِّينِ الشَّهِيدُ أَنَّهُ يَصِيرُ شَارِعًا بِالنِّيَّةِ لَكِنْ عِنْدَ التَّلْبِيَةِ لَا بِالتَّلْبِيَةِ كَمَا يَصِيرُ شَارِعًا فِي الصَّلَاةِ بِالنِّيَّةِ لَكِنْ عِنْدَ التَّكْبِيرِ لَا بِالتَّكْبِيرِ وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ يَصِيرُ شَارِعًا بِالنِّيَّةِ وَحْدَهَا مِنْ غَيْرِ تَلْبِيَةٍ وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ:؛ لِأَنَّهُ بِالْإِحْرَامِ الْتَزَمَ الْكَفَّ عَنْ الْمَحْظُورَاتِ فَيَصِيرُ شَارِعًا بِمُجَرَّدِ النِّيَّةِ كَالصَّوْمِ وَلَنَا قَوْله تَعَالَى {فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ} [البقرة: 197] قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: فَرْضُ الْحَجِّ الْإِهْلَالُ وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ التَّلْبِيَةُ وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ الْإِحْرَامُ وَقَالَتْ عَائِشَةُ لَا إحْرَامَ إلَّا لِمَنْ أَهَلَّ أَوْ لَبَّى؛ وَلِأَنَّ الْحَجَّ يَشْتَمِلُ عَلَى أَرْكَانٍ فَوَجَبَ أَنْ يُشْتَرَطَ فِي تَحْرِيمِهِ ذِكْرٌ يُرَادُ بِهِ التَّعْظِيمُ كَالصَّلَاةِ بِخِلَافِ الصَّوْمِ؛ لِأَنَّهُ رُكْنٌ وَاحِدٌ وَلَا نُسَلِّمُ أَنَّهُ الْتِزَامُ الْكَفِّ بَلْ هُوَ الْتِزَامُ الْأَفْعَالِ كَالصَّلَاةِ وَالْكَفُّ شَرْطٌ فِيهِ كَالصَّلَاةِ
وَيَصِيرُ شَرْعًا بِذِكْرٍ يَقْصِدُ بِهِ التَّعْظِيمَ فَارِسِيَّةً كَانَتْ أَوْ عَرَبِيَّةً فِي الْمَشْهُورِ عَنْ أَصْحَابِنَا وَالْفَرْقُ لِأَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الصَّلَاةِ أَنَّ بَابَ الْحَجِّ أَوْسَعُ حَتَّى تَجْرِيَ فِيهِ النِّيَابَةُ وَيُقَامُ غَيْرُ الذِّكْرِ مَقَامَ الذِّكْرِ كَتَقْلِيدِ الْبُدْنِ فَكَذَا غَيْرُ التَّلْبِيَةِ وَغَيْرُ الْعَرَبِيَّةِ ثُمَّ إذَا أَحْرَمَ صَلَّى عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَدَعَا بِمَا شَاءَ عَقِيبَ إحْرَامِهِ لِمَا رُوِيَ عَنْ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ أَنَّهُ قَالَ كَانَ يُسْتَحَبُّ لِلرَّجُلِ الصَّلَاةُ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَعْدَ التَّلْبِيَةِ رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالدَّارَقُطْنِيّ وَعَنْ خُزَيْمَةَ بْنِ ثَابِتٍ «عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ كَانَ إذَا فَرَغَ مِنْ التَّلْبِيَةِ سَأَلَ رِضْوَانَهُ وَالْجَنَّةَ وَاسْتَعَاذَ بِرَحْمَتِهِ مِنْ النَّارِ» رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ وَاسْتَحَبَّ بَعْضُهُمْ أَنْ يَقُولَ بَعْدَ التَّلْبِيَةِ اللَّهُمَّ أَعِنِّي عَلَى أَدَاءِ فَرْضِ الْحَجِّ وَتَقَبَّلْهُ مِنِّي وَاجْعَلْنِي مِنْ الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لَك وَآمَنُوا بِوَعْدِك وَاتَّبَعُوا أَمْرَك وَاجْعَلْنِي مِنْ وَفْدِك الَّذِينَ رَضِيت عَنْهُمْ وَارْتَضَيْت وَقَبِلْت اللَّهُمَّ قَدْ أَحْرَمَ لَك شَعْرِي وَبَشَرِي وَلَحْمِي وَدَمِي وَمُخِّي وَعِظَامِي.

قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - (فَاتَّقِ الرَّفَثَ وَالْفُسُوقَ وَالْجِدَالَ) لِمَا تَلَوْنَا، وَهُوَ صِيغَةُ نَفْيٍ وَالْمُرَادُ بِهِ النَّهْيُ، وَهُوَ أَبْلَغُ صِيَغِ النَّهْيِ حَيْثُ ذُكِرَ بِلَفْظٍ لَا يَحْتَمِلُ التَّخَلُّفَ، وَالرَّفَثُ الْجِمَاعُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ} [البقرة: 187] وَقِيلَ ذِكْرُ الْجِمَاعِ وَدَوَاعِيهِ بِحَضْرَةِ النِّسَاءِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ بِحَضْرَتِهِنَّ فَلَا بَأْسَ بِهِ، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - وَأَنْشَدَ يَوْمًا
وَهُنَّ يَمْشِينَ بِنَا هَمِيسًا ... إنْ تَصْدُقْ الطَّيْرُ نَنِكْ لَمِيسًا
فَقِيلَ لَهُ أَتَرْفُثُ وَأَنْتَ مُحْرِمٌ فَقَالَ الرَّفَثُ ذِكْرُ الْجِمَاعِ بِحَضْرَةِ النِّسَاءِ وَالْفُسُوقُ الْمَعَاصِي وَالْخُرُوجُ عَنْ طَاعَةِ اللَّهِ تَعَالَى.
وَهُوَ فِي حَالَةِ الْإِحْرَامِ أَشَدُّ وَأَقْبَحُ وُجُوهِ الْمَعَاصِي؛ لِأَنَّهَا حَالَةُ التَّضَرُّعِ وَهَجْرُ الْمُبَاحَاتِ وَالْإِقْبَالُ عَلَى طَاعَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَنَظِيرُهُ الظُّلْمُ فِي الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ فِي قَوْله تَعَالَى {فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ} [التوبة: 36] وَالْجِدَالُ الْخِصَامُ مَعَ الرِّفْقَةِ وَالْمُنَازَعَةُ وَالسِّبَابُ وَقِيلَ هُوَ جِدَالُ الْمُشْرِكِينَ فِي تَقْدِيمِ الْحَجِّ وَتَأْخِيرِهِ وَقِيلَ التَّفَاخُرُ بِذِكْرِ أَيَّامِهِمْ
ـــــــــــــــــــــــــــــQقَوْلُهُ وَلَنَا أَنَّ أَجِلَّاءَ الصَّحَابَةِ إلَخْ) كَابْنِ عُمَرَ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَأَبِي هُرَيْرَةَ اهـ هِدَايَةٌ (قَوْلُهُ وَالرُّغْبَا إلَيْك) الرُّغْبَا بِضَمِّ الرَّاءِ وَالْقَصْرِ وَبِفَتْحِ الرَّاءِ وَالْمَدِّ، وَهِيَ السُّؤَالُ وَالطَّلَبُ. اهـ. (قَوْلُهُ فِي الْمَتْنِ فَإِذْ الْبَيْتُ إلَخْ) لَمْ يَعْتَبِرْ مَفْهُومَ الْمُخَالَفَةِ عَلَى مَا عَلَيْهِ الْقَاعِدَةُ مِنْ اعْتِبَارِهِ مِنْ رِوَايَةِ الْفِقْهِ، وَذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ يَصِيرُ مُحْرِمًا بِكُلِّ ثَنَاءٍ وَتَسْبِيحٍ فِي ظَاهِرِ الْمَذْهَبِ، وَإِنْ كَانَ يُحْسِنُ التَّلْبِيَةَ وَلَوْ بِالْفَارِسِيَّةِ، وَإِنْ كَانَ يُحْسِنُ الْعَرَبِيَّةَ. اهـ. كَمَالٌ (قَوْلُهُ فَرْضُ الْحَجِّ الْإِهْلَالُ) وَالْإِهْلَالُ رَفْعُ الصَّوْتِ بِالتَّلْبِيَةِ، وَمِنْهُ اسْتَهَلَّ الصَّبِيُّ إذَا صَرَخَ. اهـ. غَايَةٌ (قَوْلُهُ وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ الْإِحْرَامُ) قَالَ الْكَمَالُ: وَقَوْلُ ابْنِ مَسْعُودٍ الْإِحْرَامُ لَا يُنَافِي قَوْلَهُمَا كَيْفَ وَقَدْ ثَبَتَ عَنْهُ أَنَّهُ التَّلْبِيَةُ كَقَوْلِ ابْنِ عُمَرَ رَوَاهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ اهـ (قَوْلُهُ وَيَصِيرُ شَارِعًا بِذِكْرٍ يَقْصِدُ بِهِ التَّعْظِيمَ) أَيْ سِوَى التَّلْبِيَةِ. اهـ. هِدَايَةٌ (قَوْلُهُ فَارِسِيَّةً كَانَتْ أَوْ عَرَبِيَّةً فِي الْمَشْهُورِ) وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ لَا يَصِيرُ مُحْرِمًا بِدُونِ التَّلْبِيَةِ إلَّا إذَا كَانَ لَا يُحْسِنُهَا كَمَا فِي تَكْبِيرَةِ الِافْتِتَاحِ عِنْدَهُ وَالصَّحِيحُ أَنَّ هَذَا بِالِاتِّفَاقِ. اهـ. سَرُوجِيٌّ (فَرْعٌ) قَالَ فِي الْغَايَةِ: الْأَخْرَسُ يُحَرِّكُ لِسَانَهُ بِالتَّلْبِيَةِ إنْ قَدَرَ فَيَصِيرُ مُحْرِمًا وَتَحْرِيكُهُ مُسْتَحَبٌّ وَلَيْسَ بِشَرْطٍ وَعَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ شَرْطٌ وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ لَيْسَ بِشَرْطٍ فِي الصَّلَاةِ بِالِاتِّفَاقِ وَالْفَرْقُ لَهُ أَنَّهُ عَمَلٌ فِي الصَّلَاةِ بِغَيْرِ فَائِدَةٍ بِخِلَافِ الْحَجِّ؛ لِأَنَّهُ قَدْ قَامَ فِيهِ غَيْرُ التَّلْبِيَةِ مَقَامَهَا، وَهُوَ سَوْقُ الْهَدْيِ اهـ.

(قَوْلُهُ فِي الْمَتْنِ فَاتَّقِ إلَخْ) أَيْ إذَا أَحْرَمْت فَاتَّقِ أَيْ فَاجْتَنِبْ. اهـ. ع (قَوْلُهُ فِي الشِّعْرِ وَهُنَّ يَمْشِينَ بِنَا هَمِيسًا) الضَّمِيرُ فِي هُنَّ يَرْجِعُ إلَى الْإِبِلِ وَالْهَمِيسُ صَوْتُ إخْفَافِهَا وَلَمِيسُ اسْمُ جَارِيَتِهِ وَالْمَعْنَى إنْ يَصْدُقُ الْفَأْلُ نَفْعَلُ بِهَا مَا نُرِيدُ. اهـ. (قَوْلُهُ وَقِيلَ هُوَ جِدَالُ الْمُشْرِكِينَ فِي تَقْدِيمِ الْحَجِّ وَتَأْخِيرِهِ) أَيْ وَذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْعَرَبَ كَانُوا يَحُجُّونَ عَامًا فِي ذِي الْحِجَّةِ وَعَامًا فِي صَفَرٍ وَعَامًا فِي رَبِيعِ الْأَوَّلِ

الصفحة 11