كتاب تبيين الحقائق شرح كنز الدقائق وحاشية الشلبي (اسم الجزء: 2)

وَلَوْ دَخَلَ تَحْتَ أَسْتَارِ الْكَعْبَةِ حَتَّى غَطَّاهُ إنْ كَانَ لَا يُصِيبُ رَأْسَهُ وَوَجْهَهُ فَلَا بَأْسَ بِهِ؛ لِأَنَّهُ اسْتِظْلَالٌ وَلَيْسَ بِتَغْطِيَةٍ قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - (وَشَدُّ الْهِمْيَانِ فِي وَسَطِهِ) وَقَالَ مَالِكٌ لَا يَشُدُّ إذَا كَانَتْ فِيهِ نَفَقَةُ غَيْرِهِ، وَإِنْ شَدَّ افْتَدَى لِمَا رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - «أَوْثَقِي عَلَيْك نَفَقَتَك بِمَا شِئْت حِينَ سَأَلَتْ عَنْهُ؛» وَلِأَنَّهُ لَا ضَرُورَةَ إلَيْهِ فَلَا يُبَاحُ بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَتْ فِيهِ نَفَقَتُهُ وَلَنَا أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ كَانَ يُطْلِقُهُ مِنْ غَيْرِ قَيْدٍ وَلَا هَذَا لَيْسَ بِلُبْسِ مَخِيطٍ وَلَا فِي مَعْنَاهُ فَلَا يُكْرَهُ كَمَا إذَا كَانَ فِيهِ نَفَقَةُ نَفْسِهِ، وَكَذَا شَدُّ الْمِنْطَقَةِ وَالسَّيْفِ وَالسِّلَاحِ وَالتَّخَتُّمُ بِالْخَاتَمِ كُلُّ ذَلِكَ لَا يُكْرَهُ وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ كَرِهَ شَدَّ الْمِنْطَقَةِ بِالْإِبْرَيْسَمِ.

قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - (وَأَكْثِرْ التَّلْبِيَةَ مَتَى صَلَّيْت أَوْ عَلَوْت شَرَفًا أَوْ هَبَطْت وَادِيًا أَوْ لَقِيت رَكْبًا وَبِالْأَسْحَارِ رَافِعًا صَوْتَك بِهَا) وَكَذَا إذَا اسْتَيْقَظَ مِنْ نَوْمِهِ أَوْ اسْتَعْطَفَ رَاحِلَتَهُ وَعِنْدَ كُلِّ رُكُوبٍ وَنُزُولٍ لِمَا رُوِيَ أَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «كَانَ يُلَبِّي إذَا لَقِيَ رَكْبًا أَوْ صَعِدَ أَكَمَةً أَوْ هَبَطَ وَادِيًا وَفِي أَدْبَارِ الْمَكْتُوبَةِ وَآخِرَ اللَّيْلِ» ذَكَرَهُ فِي الْإِلْمَامِ وَقَالَ النَّخَعِيّ: كَانَ السَّلَفُ يَسْتَحِبُّونَ التَّلْبِيَةَ فِي هَذِهِ الْأَحْوَالِ؛ وَلِأَنَّ التَّلْبِيَةَ فِي الْحَجِّ بِمَنْزِلَةِ التَّكْبِيرِ فِي الصَّلَاةِ أَوَّلُهَا شَرْطٌ وَبَاقِيهَا سُنَّةٌ فَيَأْتِي بِهَا عِنْدَ الِانْتِقَالِ مِنْ حَالٍ إلَى حَالٍ وَيَرْفَعُ بِهَا صَوْتَهُ لِمَا رُوِيَ أَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «قَالَ أَتَانِي جِبْرِيلُ فَأَمَرَنِي أَنْ آمُرَ أَصْحَابِي أَنْ يَرْفَعُوا أَصْوَاتَهُمْ بِالْإِهْلَالِ وَالتَّلْبِيَةِ» رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَغَيْرُهُ وَعَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «قَالَ أَفْضَلُ الْأَعْمَالِ الْعَجُّ وَالثَّجُّ» وَعَنْ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «سُئِلَ أَيُّ الْحَجِّ أَفْضَلُ قَالَ الْعَجُّ وَالثَّجُّ» رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ الْعَجُّ رَفْعُ الصَّوْتِ بِالتَّلْبِيَةِ وَالثَّجُّ إسَالَةُ الدَّمِ
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَفْعُ الصَّوْتِ بِالتَّلْبِيَةِ زِينَةُ الْحَجِّ وَقَالَ أَبُو حَازِمٍ: كَانَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَا يَبْلُغُونَ الرَّوْحَاءَ حَتَّى تُبَحَّ حُلُوقُهُمْ مِنْ التَّلْبِيَةِ وَقَالَ أَنَسٌ سَمِعْتهمْ يَصْرُخُونَ بِهَا وَلَا يُجْهِدُ نَفْسَهُ زِيَادَةً عَلَى طَاقَتِهِ كَيْ لَا يَتَضَرَّرَ بِذَلِكَ وَلَا يَتْرُكُهُ؛ لِأَنَّهُ سُنَّةٌ فَإِنْ تَرَكَهُ يَكُونُ مُسِيئًا وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ وَيَقُولُ عِنْدَ دُخُولِهِ الْحَرَمَ اللَّهُمَّ، إنَّ هَذَا أَمْنَك وَحَرَمُك الَّذِي مَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا فَحَرِّمْ لَحْمِي وَدَمِي وَعَظْمِي وَبَشَرِي عَلَى النَّارِ اللَّهُمَّ أَمِّنِّي مِنْ عَذَابِك يَوْمَ تَبْعَثُ عِبَادَك فَإِنَّك أَنْتَ اللَّهُ لَا إلَهَ إلَّا أَنْتَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ وَأَسْأَلُك أَنْ تُصَلِّيَ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَيُلَبِّي وَيُثْنِي عَلَى اللَّهِ تَعَالَى وَيَسْتَحْضِرُ الْخُشُوعَ وَالْخُضُوعَ فِي قَلْبِهِ وَجَسَدِهِ مَا أَمْكَنَهُ لِقَوْلِ ابْنِ عُمَرَ «سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ مَنْ دَخَلَ فَتَوَاضَعَ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَآثَرَ رِضَا اللَّهِ عَلَى جَمِيعِ أُمُورِهِ لَمْ يَخْرُجْ مِنْ الدُّنْيَا حَتَّى يُغْفَرَ لَهُ» وَيُسْتَحَبُّ لَهُ أَنْ يَغْتَسِلَ لِدُخُولِ مَكَّةَ لِحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ «أَنَّهُ كَانَ لَا يَقْدَمُ مَكَّةَ إلَّا بَاتَ بِذِي طُوًى حَتَّى يُصْبِحَ وَيَغْتَسِلَ ثُمَّ يَدْخُلَ مَكَّةَ نَهَارًا وَيَذْكُرَ أَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - فَعَلَهُ» وَعَنْ نَافِعٍ كَانَ «ابْنُ عُمَرَ إذَا دَخَلَ أَدْنَى الْحَرَمِ أَمْسَكَ عَنْ التَّلْبِيَةِ ثُمَّ يَبِيتُ بِذِي طُوًى ثُمَّ يُصَلِّي بِهِ الصُّبْحَ وَيَغْتَسِلُ وَيُحَدِّثُ أَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - كَانَ يَفْعَلُ ذَلِكَ» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِمَا، وَهُوَ مُسْتَحَبٌّ لِلْحَائِضِ وَالنُّفَسَاءِ وَيَدْخُلُ مَكَّةَ مِنْ الثَّنِيَّةِ الْعُلْيَا، وَهِيَ ثَنِيَّةٌ كَدَاءَ مِنْ أَعْلَى مَكَّةَ عَلَى دَرْبِ الْمُعَلَّى وَطَرِيقِ الْأَبْطَحِ وَمِنَى بِجَنْبِ الْحَجُونِ، وَهُوَ مَقْبَرَةُ أَهْلِ مَكَّةَ وَالْمَقْبَرَةُ عَلَى يَسَارِ الدَّاخِلِ وَالسِّرُّ فِي هَذَا الدُّخُولِ أَنَّ نِسْبَةَ بَابِ الْبَيْتِ إلَيْهِ كَنِسْبَةِ وَجْهِ الْإِنْسَانِ إلَيْهِ، وَأَمَاثِلُ النَّاسِ يُقْصَدُونَ مِنْ جِهَةِ وُجُوهِهِمْ لَا مِنْ ظُهُورِهِمْ وَيَخْرُجُ مِنْ الثَّنِيَّةِ السُّفْلَى، وَهِيَ ثَنِيَّةُ كُدًى مِنْ أَسْفَلِ مَكَّةَ عَلَى دَرْبِ الْيَمَنِ لِمَا رَوَى ابْنُ عُمَرَ أَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «كَانَ يَدْخُلُ مِنْ الثَّنِيَّةِ الْعُلْيَا وَيَخْرُجُ مِنْ الثَّنِيَّةِ السُّفْلَى» رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ إلَّا التِّرْمِذِيَّ وَلَا يَضُرُّهُ لَيْلًا دَخَلَهَا أَوْ نَهَارًا؛ لِأَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «دَخَلَهَا لَيْلًا وَنَهَارًا» رَوَاهُ النَّسَائِيّ فَدَخَلَهَا نَهَارًا فِي حَجَّتِهِ وَلَيْلًا فِي عُمْرَتِهِ وَهُمَا سَوَاءٌ فِي الدُّخُولِ؛ وَلِأَنَّهُ دُخُولُ بَلْدَةٍ فَاسْتَوَى فِيهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ كَدُخُولِ سَائِرِ الْبُلْدَانِ وَمَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ «أَنَّهُ كَانَ يَنْهَى عَنْ الدُّخُولِ لَيْلًا خَوْفًا مِنْ السُّرَّاقِ وَشَفَقَةً عَلَى
ـــــــــــــــــــــــــــــ Q- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَكَانَ يَطْرَحُ النَّطْعَ عَلَى الشَّجَرَةِ فَيَسْتَظِلُّ بِهِ يَعْنِي، وَهُوَ مُحْرِمٌ. اهـ. فَتْحٌ (قَوْلُهُ فَلَا بَأْسَ بِهِ) يُفِيدُ أَنَّهُ إنْ كَانَ يُصِيبُ يُكْرَهُ وَهَذَا؛ لِأَنَّ التَّغْطِيَةَ بِالْمُمَاسَّةِ يُقَالُ لِمَنْ جَلَسَ فِي خَيْمَةٍ وَنَزَعَ مَا عَلَى رَأْسِهِ جَلَسَ مَكْشُوفَ الرَّأْسِ. اهـ. كَمَالٌ (قَوْلُهُ فِي الْمَتْنِ وَشَدَّ الْهِمْيَانَ فِي وَسَطِهِ) وَسِينُ الْوَسَطِ مُتَحَرِّكٌ إذَا دَخَلَهُ حَرْفُ الْجَارِ فَلَا يُقَالُ جَلَسْت فِي وَسْطِ الدَّارِ
وَالْهِمْيَانُ فُعْلَانَ مِنْ هَمَى الْمَاءُ وَالدَّمْعُ يَهَمِي هَمَيَانًا إذَا سَالَ وَسُمِّيَ بِهِ؛ لِأَنَّهُ يَهَمِي بِمَا فِيهِ هـ كَاكِيٌّ.

(قَوْلُهُ فِي الْمَتْنِ وَأَكْثِرْ التَّلْبِيَةَ إلَخْ) قَالَ الْعَيْنِيُّ عَادَ مِنْ الْتِفَاتِ الْغَيْبَةِ إلَى الْحُضُورِ حَيْثُ قَالَ وَأَكْثِرْ بِالْخِطَابِ اهـ وَقَوْلُهُ وَأَكْثِرْ التَّلْبِيَةَ إلَخْ فِي مُصَنَّفِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ عَنْ الْأَعْمَشِ عَنْ خَيْثَمَةَ قَالَ كَانُوا يَسْتَحِبُّونَ التَّلْبِيَةَ عِنْدَ سِتٍّ دُبُرِ الصَّلَاةِ، وَإِذَا اسْتَقَلَّتْ بِالرَّجُلِ رَاحِلَتُهُ، وَإِذَا صَعِدَ شَرَفًا أَوْ هَبَطَ وَادِيًا، وَإِذَا لَقِيَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا وَبِالْأَسْحَارِ ثُمَّ الْمَذْكُورُ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَنَّهُ أَدْبَارُ الصَّلَوَاتِ مِنْ غَيْرِ تَخْصِيصٍ كَمَا هُوَ النَّصُّ وَعَلَيْهِ مَشَى فِي الْبَدَائِعِ فَقَالَ فَرَائِضَ كَانَتْ أَوْ نَوَافِلَ وَخَصَّ الطَّحَاوِيُّ بِالْمَكْتُوبَاتِ دُونَ النَّوَافِلِ وَالْفَوَائِتِ وَأَجْرَاهَا فِي مَجْرَى التَّكْبِيرِ فِي أَيَّامِ التَّشْرِيق وَلَيْسَ بِبَعِيدٍ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ مِنْ قَوْلِهِ الصَّلَوَاتِ تَعْرِيفُ الْمَعْهُودِ الْخَاصِّ. اهـ. فَتْحٌ (قَوْلُهُ أَوْ لَقِيت رَكْبًا) رَكْبًا جَمْعُ رَاكِبٍ كَوَفْدٍ جَمْعُ وَافِدٍ قَالَ يَعْقُوبُ هُوَ الْعَشَرَةُ فَمَا فَوْقَهَا مِنْ الْإِبِلِ. اهـ. ع (قَوْلُهُ وَبِالْأَسْحَارِ) أَيْ لِكَوْنِهَا وَقْتَ إجَابَةِ الدَّعْوَةِ. اهـ. (قَوْلُهُ وَلَا يُجْهِدُ نَفْسَهُ إلَخْ) قَالَ فِي الدِّرَايَةِ وَالْمُسْتَحَبُّ فِي الدُّعَاءِ الْأَذْكَارُ الْخَفِيَّةُ إلَّا فِيمَا تَعَلَّقَ بِإِعْلَامٍ مَقْصُودٍ كَالْأَذَانِ وَالْخُطْبَةِ لِلْوَعْظِ وَتَكْبِيرَاتِ الصَّلَاةِ لِلِانْتِقَالِ وَالْقِرَاءَةِ لِلِاسْتِمَاعِ فَالتَّلْبِيَةُ أَيْضًا لِلشُّرُوعِ فِيمَا هُوَ مِنْ أَعْلَامِ الدِّينِ، فَلِذَا كَانَ الْمُسْتَحَبُّ فِيهَا رَفْعَ الصَّوْتِ بِقَدْرِ الطَّاقَةِ اهـ (قَوْلُهُ وَلَا يَتْرُكُ) أَيْ رَفْعَ الصَّوْتِ بِالتَّلْبِيَةِ. اهـ. (قَوْلُهُ؛ لِأَنَّهُ سُنَّةٌ) أَيْ فِي حَقِّ الرَّجُلِ دُونَ الْمَرْأَةِ. اهـ. كَاكِيٌّ (قَوْلُهُ، وَهِيَ ثَنِيَّةُ كَدَاءَ) بِفَتْحِ الْكَافِ وَالْمَدِّ وَمَنْعِ الصَّرْفِ. اهـ. غَايَةٌ قَوْلُهُ وَمَنْعِ الصَّرْفِ أَيْ وَيَجُوزُ أَيْضًا صَرْفُهُ (قَوْلُهُ، وَهِيَ ثَنِيَّةُ كُدًى) أَيْ بِضَمِّ الْكَافِ وَالْقَصْرِ

الصفحة 14