كتاب تبيين الحقائق شرح كنز الدقائق وحاشية الشلبي (اسم الجزء: 2)

الْوُجُوبِ وَلَنَا قَوْلُهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «لَمَّا انْتَهَى إلَى مَقَامِ إبْرَاهِيمَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - قَرَأَ {وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى} [البقرة: 125] فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ فَقَرَأَ فَاتِحَةَ الْكِتَابِ {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} [الكافرون: 1] {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص: 1] ثُمَّ عَادَ إلَى الرُّكْنِ فَاسْتَلَمَهُ ثُمَّ خَرَجَ إلَى الصَّفَا» رَوَاهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ فَنَبَّهَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أَنَّ صَلَاتَهُ كَانَتْ امْتِثَالًا لِأَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى وَالْأَمْرُ لِلْوُجُوبِ وَقَالَ السُّدِّيَّ وَقَتَادَةُ أُمِرُوا أَنْ يُصَلُّوا عِنْدَ الْمَقَامِ.

قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - (لِلْقُدُومِ، وَهُوَ سُنَّةٌ لِغَيْرِ الْمَكِّيِّ) وَاللَّامُ فِي قَوْلِهِ لِلْقُدُومِ مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ طُفْ فِيمَا تَقَدَّمَ أَيْ طُفْ لِلْقُدُومِ وَقَدْ بَيَّنَّا وَجْهَهُ وَقَوْلُهُ، وَهُوَ سُنَّةٌ لِغَيْرِ الْمَكِّيِّ أَيْ طَوَافُ الْقُدُومِ سُنَّةٌ لِغَيْرِ أَهْلِ مَكَّةَ وَقَالَ مَالِكٌ هُوَ وَاجِبٌ لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «مَنْ أَتَى الْبَيْتَ فَلْيُحَيِّهِ بِالطَّوَافِ» أَمْرٌ، وَهُوَ لِلْوُجُوبِ وَلَنَا أَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - سَمَّاهُ تَحِيَّةً بِقَوْلِهِ فَلْيُحَيِّهِ فَلَا يُفِيدُ الْوُجُوبَ؛ لِأَنَّ التَّحِيَّةَ فِي اللُّغَةِ اسْمٌ لِإِكْرَامٍ يَبْدَأُ بِهِ الْإِنْسَانُ عَلَى سَبِيلِ التَّبَرُّعِ كَلَفْظِ التَّطَوُّعِ فَلَا يَدُلُّ عَلَى الْوُجُوبِ، وَإِنْ كَانَ يَدُلُّ عَلَى صِيغَةِ الْأَمْرِ كَقَوْلِهِ أَكْرِمُوا الشُّهُودَ وَلَا يَلْزَمُنَا وُجُوبُ رَدِّ السَّلَامِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا} [النساء: 86]؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِابْتِدَاءِ إحْسَانٍ، وَإِنَّمَا هُوَ مُجَازَاةٌ لِسَلَامِهِ الْأَوَّلِ أَوْ نَقُولُ الْمَأْمُورُ بِهِ الْجَوَابُ الْمُقَيَّدُ بِأَحْسَنَ وَذَلِكَ لَيْسَ بِوَاجِبٍ؛ وَلِأَنَّ أَرْكَانَ الْحَجِّ لَا تَتَكَرَّرُ وَطَوَافُ الزِّيَارَةِ رُكْنٌ بِالْإِجْمَاعِ وَلَوْ كَانَ هَذَا فَرْضًا لَتَكَرَّرَ وَقَوْلُهُ سُنَّةٌ لِغَيْرِ الْمَكِّيِّ؛ لِأَنَّهُ عَلَى مَنْ يَقْدَمُ وَأَهْلُ مَكَّةَ لَا يَقْدَمُونَ فَلَا يَكُونُ سُنَّةً فِي حَقِّهِمْ كَالْجَالِسِ فِي الْمَسْجِدِ فِي حَقِّ تَحِيَّةِ الْمَسْجِدِ، وَإِذَا فَرَغَ مِنْهَا يَقُولُ اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَاغْفِرْ لِي ذُنُوبِي وَقَنِّعْنِي بِمَا رَزَقْتنِي وَبَارِكْ لِي فِيمَا أَعْطَيْتنِي وَاخْلُفْ عَلَى كُلِّ غَائِبَةٍ لِي بِخَيْرٍ وَيُسْتَحَبُّ لَهُ أَنْ يَدْعُوَ بَعْدَ صَلَاتِهِ خَلْفَ الْمَقَامِ بِمَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ مِنْ أُمُورِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ ثُمَّ يَأْتِي زَمْزَمَ فَيَشْرَبُ مِنْ مَائِهَا وَيَتَضَلَّعُ مِنْهُ وَيُفْرِغُ الْبَاقِيَ فِي الْبِئْرِ وَيَقُولُ عِنْدَ ذَلِكَ اللَّهُمَّ إنِّي أَسْأَلُك رِزْقًا وَاسِعًا وَعِلْمًا نَافِعًا وَشِفَاءً مِنْ كُلِّ دَاءٍ قَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «مَاءُ زَمْزَمَ لِمَا شُرِبَ لَهُ» وَقَدْ جَعَلَهُ اللَّهُ تَعَالَى طَعَامًا لِإِسْمَاعِيلَ وَأُمِّهِ وَيُكْرَهُ أَنْ يَجْمَعَ بَيْنَ أُسْبُوعَيْنِ فَصَاعِدًا قَبْلَ أَنْ يُصَلِّيَ الرَّكْعَتَيْنِ بَيْنَهُمَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ، وَهُوَ مَذْهَبُ عُمَرَ وَجَمَاعَةٍ أُخَرَ وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ لَا بَأْسَ بِهِ إنْ انْصَرَفَ عَنْ وِتْرٍ مِثْلَ أَنْ يَنْصَرِفَ عَنْ ثَلَاثَةِ أَسَابِيعَ أَوْ خَمْسَةٍ أَوْ سَبْعَةٍ ثُمَّ إذَا أَرَادَ أَنْ يَسْعَى بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ عَادَ إلَى الْحَجَرِ الْأَسْوَدِ فَاسْتَلَمَهُ لِمَا رُوِيَ أَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «اسْتَلَمَ الرُّكْنَ ثُمَّ خَرَجَ» فِيمَا رَوَاهُ النَّسَائِيّ.

قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - (ثُمَّ اُخْرُجْ إلَى الصَّفَا وَقُمْ عَلَيْهِ مُسْتَقْبِلًا الْبَيْتَ مُهَلِّلًا مُكَبِّرًا مُصَلِّيًا عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دَاعِيًا رَبَّك بِحَاجَتِك) لِمَا رَوَى جَابِرٌ أَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «بَدَأَ بِالصَّفَا فَرَقَى عَلَيْهِ حَتَّى رَأَى الْبَيْتَ فَاسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةَ وَوَحَّدَ اللَّهَ تَعَالَى وَكَبَّرَهُ وَقَالَ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ أَنْجَزَ وَعْدَهُ وَنَصَرَ عَبْدَهُ وَهَزَمَ الْأَحْزَابَ وَحْدَهُ ثُمَّ دَعَا
ـــــــــــــــــــــــــــــQبِحَدِيثِ الْأَعْرَابِيِّ قَالَ فِي الرِّوَايَةِ وَمَا رُوِيَ مِنْ الْحَدِيثِ مَتْرُوكُ الظَّاهِرِ، فَإِنَّا أَجْمَعْنَا أَنَّ صَلَاةَ الْجِنَازَةِ وَالْعِيدَيْنِ وَاجِبَةٌ وَلَيْسَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ بَيَانُهَا. اهـ. (قَوْلُهُ وَالْأَمْرُ لِلْوُجُوبِ) أَيْ إلَّا أَنَّ اسْتِفَادَةَ ذَلِكَ مِنْ التَّنْبِيهِ، وَهُوَ ظَنِّيٌّ فَكَانَ الثَّابِتُ الْوُجُوبَ وَيَلْزَمُهُ حُكْمُنَا بِمُوَاظَبَتِهِ مِنْ غَيْرِ تَرْكٍ إذْ لَا يَجُوزُ عَلَيْهِ تَرْكُ الْوَاجِبِ اهـ فَتْحٌ قَوْلُهُ فَكَانَ الثَّابِتُ الْوُجُوبَ أَيْ بِالْمَعْنَى الْمُصْطَلَحِ اهـ.

(قَوْلُهُ فِي الْمَتْنِ لِلْقُدُومِ، وَهُوَ سُنَّةٌ إلَخْ) طَوَافُ الْقُدُومِ لَهُ سِتَّةُ أَسْمَاءٍ الْأَوَّلُ هَذَا وَالثَّانِي طَوَافُ اللِّقَاءِ وَالثَّالِثُ طَوَافُ التَّحِيَّةِ وَالرَّابِعُ طَوَافُ أَوَّلِ عَهْدٍ بِالْبَيْتِ وَالْخَامِسُ الطَّوَافُ لِلنَّفْلِ وَالسَّادِسُ طَوَافُ الْوُرُودِ. اهـ. غَايَةٌ قَالَ فِيهَا وَالصَّحِيحُ أَنَّ الطَّوَافَ لَا يُكْرَهُ فِي الْأَوْقَاتِ الْمَكْرُوهَةِ وَيُؤَخِّرُ رَكْعَتَيْهِ إلَى وَقْتِ اسْتِحْبَابِ الصَّلَاةِ فِيهِ وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ. اهـ. (قَوْلُهُ وَقَالَ مَالِكٌ، وَهُوَ وَاجِبٌ لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «مِنْ أَتَى الْبَيْتَ» إلَخْ) الْحَدِيثَ هَذَا غَرِيبٌ جِدًّا. اهـ. فَتْحٌ
(قَوْلُهُ، وَإِنْ كَانَ عَلَى صِيغَةِ الْأَمْرِ) أَيْ فَإِنَّهُ مَأْخُوذٌ فِي مَفْهُومِهَا التَّبَرُّعُ؛ لِأَنَّهَا فِي اللُّغَةِ عِبَارَةٌ عَنْ إكْرَامٍ يَبْدَأُ بِهِ الْإِنْسَانُ عَلَى سَبِيلِ التَّبَرُّعِ كَلَفْظِ التَّطَوُّعِ فَلَوْ قَالَ تَطَوَّعَ أَفَادَ النَّدْبَ فَكَذَا إذَا قَالَ تَحِيَّةً. اهـ. فَتْحٌ قَوْلُهُ فَإِنَّهُ مَأْخُوذٌ فِي مَفْهُومِهَا أَيْ التَّحِيَّةِ اهـ (قَوْلُهُ، وَإِنَّمَا هُوَ مُجَازَاةٌ لِسَلَامَةِ الْأَوَّلِ) فَلَفْظُ التَّحِيَّةِ فِيهِ مِنْ مَجَازِ الْمُشَاكَلَةِ مِثْلُ وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ. اهـ. فَتْحٌ (قَوْلُهُ؛ وَلِأَنَّ أَرْكَانَ الْحَجِّ لَا تَتَكَرَّرُ إلَخْ) قَالَ فِي فَتْحِ الْقَدِيرِ: وَأَمَّا الْجَوَابُ الَّذِي تَضَمَّنَهُ الدَّلِيلُ الْقَائِلُ أَنَّ الْأَمْرَ بِالطَّوَافِ لَا يَقْتَضِي التَّكْرَارَ وَقَدْ تَعَيَّنَ طَوَافُ الزِّيَارَةِ بِالْإِجْمَاعِ فَلَا يَكُونُ غَيْرُهُ كَذَلِكَ، فَإِنَّمَا يُفِيدُ لَوْ ادَّعَى فِي طَوَافِ الْقُدُومِ الرُّكْنِيَّةَ بِدَعْوَى الِافْتِرَاضِ لَكِنَّهُ لَيْسَ مُدَّعَاهُ. اهـ. (قَوْلُهُ وَيُكْرَهُ أَنْ يَجْمَعَ بَيْنَ أُسْبُوعَيْنِ إلَخْ) قَالَ فِي الْفَتْحِ: وَيَتَفَرَّعُ عَلَى الْكَرَاهَةِ أَنَّهُ لَوْ نَسِيَهُمَا فَلَمْ يَتَذَكَّرْ إلَّا بَعْدَ أَنْ شَرَعَ فِي طَوَافٍ آخَرَ إنْ كَانَ قَبْلَ إتْمَامِ شَوْطٍ رَفَضَهُ وَبَعْدَ إتْمَامِهِ لَا اهـ ثُمَّ مَحَلُّ الْخِلَافِ فِيمَا إذَا كَانَ الْوَصْلُ فِي وَقْتٍ لَا يُكْرَهُ فِيهِ الصَّلَاةُ أَمَّا إذَا كَانَ فِي وَقْتٍ يُكْرَهُ فِي الصَّلَاةِ، فَإِنَّ الْوَصْلَ لَا يُكْرَهُ اتِّفَاقًا كَذَا فِي السِّرَاجِ الْوَهَّاجِ اهـ (قَوْلُهُ وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ لَا بَأْسَ بِهِ إنْ انْصَرَفَ عَنْ وِتْرٍ إلَخْ) وَوَجْهُهُ أَنَّ الْوِتْرَ أَصْلٌ لِلطَّوَافِ، وَهُوَ سَبْعَةُ أَشْوَاطٍ. اهـ. غَايَةٌ (قَوْلُهُ عَادَ إلَى الْحَجَرِ الْأَسْوَدِ فَاسْتَلَمَهُ) قَالَ فِي الْهِدَايَةِ ثُمَّ يَأْتِي الْمَقَامَ فَيُصَلِّي عِنْدَهُ رَكْعَتَيْنِ أَوْ حَيْثُ تَيَسَّرَ مِنْ الْمَسْجِدِ ثُمَّ يَعُودُ إلَى الْحَجَرِ فَيَسْتَلِمُ لِمَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمَّا صَلَّى رَكْعَتَيْنِ عَادَ إلَى الْحَجَرِ وَاسْتَلَمَهُ وَالْأَصْلُ أَنَّ كُلَّ طَوَافٍ بَعْدَهُ سَعْيٌ يَعُودُ إلَى الْحَجَرِ؛ لِأَنَّ الطَّوَافَ لَمَّا كَانَ يُفْتَتَحُ بِالِاسْتِلَامِ فَكَذَا السَّعْيُ يُفْتَتَحُ بِهِ بِخِلَافِ مَا إذَا لَمْ يَكُنْ بَعْدَهُ سَعْيٌ اهـ.

(قَوْلُهُ فِي الْمَتْنِ ثُمَّ اُخْرُجْ إلَى الصَّفَا إلَخْ) قَالَ فِي الدِّرَايَةِ ثُمَّ الصُّعُودُ عَلَى الصَّفَا سُنَّةٌ وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ فِي الْمَشْهُورِ عَنْهُ أَنَّهُ رُكْنٌ اهـ قَالَ الْكَرْمَانِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فَإِنْ لَمْ يَصْعَدْ عَلَى الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ فِي السَّعْيِ الَّذِي ذَكَرْنَا يَجُوزُ عِنْدَنَا وَيُكْرَهُ لِمَا فِيهِ مِنْ تَرْكِ السُّنَّةِ وَلَا يَجِبُ بِتَرْكِهِ شَيْءٌ؛ لِأَنَّهُ مِنْ السُّنَّةِ اهـ قَوْلُهُ ثُمَّ الصُّعُودُ عَلَى الصَّفَا أَيْ وَالْمَرْوَةِ. اهـ. فَتْحٌ وَقَوْلُهُ سُنَّةٌ أَيْ فَيُكْرَهُ تَرْكُهُ وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ. اهـ. فَتْحٌ

الصفحة 19