كتاب تبيين الحقائق شرح كنز الدقائق وحاشية الشلبي (اسم الجزء: 2)

أَيْ تَفَكَّرَ أَنَّ مَا رَآهُ مِنْ اللَّهِ فَيَأْتَمِرُهُ أَوَّلًا مِنْ الرُّؤَى، وَهُوَ مَهْمُوزٌ ذَكَرَهُ فِي طِلْبَةِ الطَّلَبَةِ وَقِيلَ مِنْ الرِّوَايَةِ؛ لِأَنَّ الْإِمَامَ يَرْوِي لِلنَّاسِ مَنَاسِكَهُمْ، وَهُوَ يُوَافِقُ قَوْلَ زُفَرَ إذْ كَانَتْ الْخُطْبَةُ عِنْدَهُ فِيهِ وَكَذَا عِنْدَ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى ثُمَّ لَا يَتْرُكُ التَّلْبِيَةَ فِي أَحْوَالِهِ كُلِّهَا فِي مَكَّةَ وَفِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَغَيْرِهِ وَيُلَبِّي عِنْدَ الْخُرُوجِ مِنْ مَكَّةَ وَيَدْعُو بِمَا شَاءَ وَيُهَلِّلُ وَيَقُولُ فِي دُعَائِهِ اللَّهُمَّ إيَّاكَ أَرْجُو وَلَك أَدْعُو وَإِلَيْك أَرْغَبُ اللَّهُمَّ بَلِّغْنِي صَالِحَ عَمَلِي وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي فَإِذَا دَخَلَ مِنًى قَالَ اللَّهُمَّ هَذَا مِنًى وَهَذَا مِمَّا دَلَلْتنَا عَلَيْهِ مِنْ الْمَنَاسِكِ فَمُنَّ عَلَيْنَا بِجَوَامِع الْخَيْرَاتِ وَبِمَا مَنَنْت عَلَى إبْرَاهِيمَ خَلِيلِك وَمُحَمَّدٍ حَبِيبِك وَبِمَا مَنَنْت عَلَى أَوْلِيَائِك وَأَهْلِ طَاعَتِك فَإِنِّي عَبْدُك وَنَاصِيَتِي بِيَدِك جِئْت طَالِبًا مَرْضَاتَك وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَنْزِلَ عِنْدَ مَسْجِدِ الْخَيْفِ

قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - (ثُمَّ إلَى عَرَفَاتٍ بَعْدَ صَلَاةِ الْفَجْرِ يَوْمَ عَرَفَةَ) لِمَا رَوَى ابْنُ عُمَرَ أَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «غَدَا مِنْ مِنًى حِينَ طَلَعَ الصُّبْحُ فِي صَبِيحَةِ يَوْمِ عَرَفَةَ حَتَّى أَتَى عَرَفَةَ» الْحَدِيثَ رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد وَهَذَا بَيَانُ الْأَوْلَوِيَّةِ حَتَّى لَوْ دَفَعَ قَبْلَ طُلُوعِ الْفَجْرِ جَازَ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَتَعَلَّقْ بِهَذَا الْمَقَامِ إقَامَةُ نُسُكٍ وَلِهَذَا لَوْ بَاتَ بِمَكَّةَ جَازَ وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَقُولَ عِنْدَ التَّوَجُّهِ إلَى عَرَفَاتٍ اللَّهُمَّ إلَيْك تَوَجَّهْت وَعَلَيْك تَوَكَّلْت وَوَجْهَك أَرَدْت فَاجْعَلْ ذَنْبِي مَغْفُورًا وَحَجِّي مَبْرُورًا وَارْحَمْنِي وَلَا تُخَيِّبْنِي وَبَارِكْ لِي فِي سَفَرِي وَاقْضِ بِعَرَفَاتٍ حَاجَتِي، إنَّك عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَيُلَبِّي وَيُهَلِّلُ وَيُكَبِّرُ لِقَوْلِ «ابْنِ مَسْعُودٍ حِينَ أُنْكِرَ عَلَيْهِ التَّلْبِيَةُ فِي مِنًى أَجَهِلَ النَّاسُ أَمْ نَسُوا وَاَلَّذِي بَعَثَ مُحَمَّدًا بِالْحَقِّ لَقَدْ خَرَجْت مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَمَا تَرَكَ التَّلْبِيَةَ حَتَّى رَمَى جَمْرَةَ الْعَقَبَةِ إلَّا أَنْ يَخْلِطَهَا بِتَكْبِيرٍ أَوْ تَهْلِيلٍ» رَوَاهُ أَبُو ذَرٍّ وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَسِيرَ عَلَى طَرِيقِ ضَبٍّ وَيَعُودُ عَلَى طَرِيقِ الْمَأْزِمَيْنِ اقْتِدَاءً بِالنَّبِيِّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - كَمَا فِي الْعِيدَيْنِ فَإِذَا قَرُبَ مِنْ عَرَفَةَ وَوَقَعَ بَصَرُهُ عَلَى جَبَل الرَّحْمَةِ وَعَايَنَهُ يُسْتَحَبُّ لَهُ أَنْ يَقُولَ اللَّهُمَّ إلَيْك تَوَجَّهْت وَعَلَيْك تَوَكَّلْت وَوَجْهَك أَرَدْت اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي وَتُبْ عَلَيَّ وَأَعْطِنِي سُؤْلِي وَوَجِّهْ لِي الْخَيْرَ أَيْنَمَا تَوَجَّهْت سُبْحَانَ اللَّهِ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ وَلَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَاَللَّهُ أَكْبَرُ ثُمَّ يُلَبِّي إلَى أَنْ يَدْخُلَ عَرَفَاتٍ يَنْزِلُ مَعَ النَّاسِ حَيْثُ شَاءَ وَقُرْبُ الْجَبَلِ أَفْضَلُ وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ بَطْنُ نَمِرَةَ أَفْضَلُ لِنُزُولِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - فِيهِ قُلْنَا نَمِرَةُ فِي عَرَفَةَ وَقَدْ قَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «عَرَفَاتٌ كُلُّهَا مَوْقِفٌ» وَارْتَفَعُوا عَنْ بَطْنِ عُرَنَةَ وَنُزُولُهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - لَمْ يَكُنْ قَصْدًا قَالَ فِي الْأَصْلِ يَنْزِلُ مَعَ النَّاسِ؛ لِأَنَّ الِانْتِبَاذَ، وَهُوَ أَنْ يَنْزِلَ نَاحِيَةً عَنْ النَّاسِ تَجْبُرُ وَالْحَالُ حَالُ تَضَرُّعٍ وَمَسْكَنَةٍ؛ وَلِأَنَّ الْإِجَابَةَ فِي الْجَمْعِ أَرْجَى؛ وَلِأَنَّهُ آمِنٌ مِنْ اللُّصُوصِ وَالْخَطَّافِينَ وَقِيلَ مُرَادُهُ أَنْ لَا يَنْزِلَ عَلَى الطَّرِيقِ كَيْ لَا لَا يَضِيقَ عَلَى الْمَارَّةِ

قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - (ثُمَّ اُخْطُبْ) يَعْنِي خُطْبَتَيْنِ بَعْدَ الزَّوَالِ وَبَعْدَ الْأَذَانِ قَبْلَ الصَّلَاةِ تَجْلِسُ بَيْنَهُمَا كَمَا فِي الْجُمُعَةِ هَكَذَا رُوِيَ مِنْ خُطْبَتِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - وَلَوْ خَطَبَ قَبْلَ الزَّوَالِ جَازَ لِحُصُولِ الْمَقْصُودِ وَصِفَةُ الْخُطْبَةِ أَنْ يَحْمَدَ اللَّهَ تَعَالَى وَيُثْنِيَ عَلَيْهِ وَيُهَلِّلَ وَيُكَبِّرَ وَيُصَلِّيَ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَيَعِظَ النَّاسَ وَيَأْمُرَهُمْ بِمَا أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ وَيَنْهَاهُمْ عَمَّا نَهَاهُمْ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ وَيُعَلِّمَهُمْ الْمَنَاسِكَ الَّتِي هِيَ إلَى الْخُطْبَةِ الثَّالِثَةِ، وَهِيَ خُطْبَةُ يَوْمِ الْحَادِيَ عَشْرَ وَتِلْكَ الْمَنَاسِكُ هِيَ الْوُقُوفُ بِعَرَفَةَ وَالْمُزْدَلِفَةِ وَالْإِفَاضَةُ مِنْهُمَا وَرَمْيُ جَمْرَةِ الْعَقَبَةِ يَوْمَ النَّحْرِ وَالذَّبْحُ وَالْحَلْقُ وَطَوَافُ الزِّيَارَةِ وَقَالَ مَالِكٌ: يَخْطُبُ بَعْدَ الصَّلَاةِ؛ لِأَنَّهَا خُطْبَةُ وَعْظٍ كَالْعِيدِ وَالْحُجَّةُ عَلَيْهِ مَا رَوَيْنَا؛ وَلِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْهَا تَعْلِيمُ الْمَنَاسِكِ وَالْجَمْعُ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ مِنْ الْمَنَاسِكِ فَتُقَدَّمُ عَلَيْهِ وَفِي ظَاهِرِ الْمَذْهَبِ عَنْ أَصْحَابِنَا إذَا صَعِدَ الْإِمَامُ الْمِنْبَرَ وَجَلَسَ أَذَّنَ الْمُؤَذِّنُونَ كَمَا فِي الْجُمُعَةِ وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُمْ يُؤَذِّنُونَ وَالْإِمَامُ فِي الْفُسْطَاطِ ثُمَّ يَخْرُجُ فَيَخْطُبُ وَرَوَى الطَّحَاوِيُّ عَنْهُ أَنَّ الْإِمَامَ يَبْدَأُ بِالْخُطْبَةِ قَبْلَ الْأَذَانِ فَإِذَا مَضَى صَدْرٌ مِنْ خُطْبَتِهِ أَذَّنُوا ثُمَّ يُتِمُّ الْخُطْبَةَ بَعْدَهُ فَإِذَا فَرَغَ أَقَامُوا لِمَا رَوَى جَابِرٌ أَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «رَاحَ إلَى الْمَوْقِفِ بِعَرَفَةَ فَخَطَبَ بِالنَّاسِ الْخُطْبَةَ الْأُولَى ثُمَّ أَذَّنَ بِلَالٌ ثُمَّ أَخَذَ النَّبِيُّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - فِي الْخُطْبَةِ الثَّانِيَةِ فَفَرَغَ مِنْ الْخُطْبَةِ وَبِلَالٌ مِنْ الْأَذَانِ ثُمَّ أَقَامَ بِلَالٌ» الْحَدِيثَ فَصَارَ لِأَبِي يُوسُفَ ثَلَاثُ رِوَايَاتٍ وَالْأَظْهَرُ أَنَّهُ مَعَهُمْ وَالصَّحِيحُ الْأُولَى؛ لِأَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «لَمَّا خَرَجَ وَاسْتَوَى عَلَى نَاقَتِهِ أَذَّنَ الْمُؤَذِّنُ بَيْنَ يَدَيْهِ» وَيُقِيمُ الْمُؤَذِّنُ بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْ الْخُطْبَةِ؛ لِأَنَّهُ أَوَانُ الشُّرُوعِ فِي الصَّلَاةِ فَأَشْبَهَ الْجُمُعَةَ.

قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - (ثُمَّ صَلِّ بَعْدَ الزَّوَالِ الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ بِأَذَانٍ وَإِقَامَتَيْنِ
ـــــــــــــــــــــــــــــQقَوْلُهُ أَيْ تَفَكَّرَ أَنَّ مَا رَآهُ مِنْ اللَّهِ) أَيْ أَمْ مِنْ الشَّيْطَانِ فَمِنْ ذَلِكَ سُمِّيَ يَوْمَ التَّرْوِيَةِ فَلَمَّا رَأَى اللَّيْلَةَ الثَّانِيَةَ عَرَفَ أَنَّهُ مِنْ اللَّهِ فَمِنْ ثَمَّ سُمِّيَ يَوْمَ عَرَفَةَ فَلَمَّا رَأَى اللَّيْلَةَ الثَّالِثَةَ هَمَّ بِنَحْرِهِ فَسُمِّيَ يَوْمَ النَّحْرِ كَذَلِكَ فِي الْكَشَّافِ. اهـ. كَاكِيٌّ (قَوْلُهُ، وَهُوَ مَهْمُوزٌ ذَكَرَهُ فِي طِلْبَةِ الطَّلَبَةِ) قَالَ السُّرُوجِيُّ: وَفِيهِ بُعْدٌ مِنْ جِهَةِ أَنَّ رُؤْيَا الْأَنْبِيَاءِ حَقٌّ اهـ (قَوْلُهُ وَقِيلَ مِنْ الرِّوَايَةِ إلَخْ) قَالَ فِي الْغَايَةِ: وَفِيهِ قَوْلٌ رَابِعٌ، وَهُوَ أَنَّ آدَمَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - رَأَى فِيهِ حَوَّاءَ وَفِيهِ قَوْلٌ خَامِسٌ، وَهُوَ أَنَّ جِبْرِيلَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - كَانَ يُرِي إبْرَاهِيمَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فِيهِ مَنَاسِكَهُ ذَكَرَهُمَا الْكَرْمَانِيُّ وَهُمَا بَعِيدَانِ اهـ.

(قَوْلُهُ فِي الْمَتْنِ ثُمَّ إلَى عَرَفَاتٍ بَعْدَ صَلَاةِ الْفَجْرِ) أَيْ بِمِنًى بِغَلَسٍ. اهـ. غَايَةٌ (قَوْلُهُ وَيَعُودُ عَلَى طَرِيقِ الْمَأْزِمَيْنِ) وَالْمَأْزِمَانِ الطَّرِيقُ بَيْنَ الْجَبَلَيْنِ بِفَتْحِ الْمِيمِ وَالْهَمْزَةِ السَّاكِنَةِ وَكَسْرِ الزَّايِ. اهـ. غَايَةٌ (قَوْلُهُ كَمَا فِي الْعِيدَيْنِ) أَيْ حَيْثُ يَذْهَبُ مِنْ طَرِيقٍ وَيَرْجِعُ مِنْ أُخْرَى. اهـ.

(قَوْلُهُ بَعْدَ الزَّوَالِ وَبَعْدَ الْأَذَانِ إلَخْ) اعْلَمْ أَنَّهُ إذَا زَالَتْ الشَّمْسُ مِنْ يَوْمِ عَرَفَةَ اغْتَسَلَ إنْ أَحَبَّ وَلَيْسَ ذَلِكَ بِوَاجِبٍ بَلْ هُوَ سُنَّةٌ، وَذَلِكَ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ الْيَوْمَ يَوْمُ اجْتِمَاعِ النَّاسِ فَيُسْتَحَبُّ فِيهِ الِاغْتِسَالُ لِلنَّظَافَةِ كَمَا فِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ وَالْعِيدَيْنِ. اهـ. أَتْقَانِيٌّ (قَوْلُهُ وَلَوْ خَطَبَ قَبْلَ الزَّوَالِ جَازَ) لَكِنَّهُ تَرَكَ السُّنَّةَ. اهـ. غَايَةٌ (قَوْلُهُ لِحُصُولِ الْمَقْصُودِ) أَيْ، وَهُوَ تَعْلِيمُ الْمَنَاسِكِ اهـ.

الصفحة 23