كتاب تبيين الحقائق شرح كنز الدقائق وحاشية الشلبي (اسم الجزء: 2)

بِشَرْطِ الْإِمَامِ وَالْإِحْرَامِ)
لِمَا رَوَى جَابِرٌ أَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «صَلَّاهُمَا بِأَذَانٍ وَإِقَامَتَيْنِ» صَحَّ ذَلِكَ عَنْهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - فَيَكُونُ حُجَّةً عَلَى مَالِكٍ فِي اعْتِبَارِ الْأَذَانَيْنِ ثُمَّ بَيَانُهُ أَنَّهُ يُؤَذِّنُ لِلظُّهْرِ وَيُقِيمُ لِلظُّهْرِ ثُمَّ يُقِيمُ لِلْعَصْرِ؛ لِأَنَّهُ يُؤَدِّي قَبْلَ وَقْتِهِ الْمَعْهُودِ فَيُفْرِدُ بِالْإِقَامَةِ إعْلَامًا لِلنَّاسِ بِأَنَّهُ شَارِعٌ فِيهِ وَلَا يَتَطَوَّعُ بَيْنَهُمَا تَحْصِيلًا لِلْمَقْصُودِ وَرُوِيَ أَنَّ سَالِمًا قَالَ لِلْحَجَّاجِ إنْ كُنْت تُرِيدُ أَنْ تُصِيبَ السُّنَّةَ فَاقْصِرْ الْخُطْبَةَ وَعَجِّلْ الصَّلَاةَ فَقَالَ ابْنُ عُمَرَ صَدَقَ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَلَوْ تَطَوَّعَ بَيْنَهُمَا كُرِهَ لَهُ ذَلِكَ وَأَعَادَ الْأَذَانَ خِلَافًا لِمَا يَرْوِي عَنْهُ مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ -؛ لِأَنَّ الِاشْتِغَالَ بِالتَّطَوُّعِ أَوْ بِعَمَلٍ آخَرَ يَقْطَعُ فَوْرَ الْأَذَانِ الْأَوَّلِ فَيُعِيدُهُ لِلْعَصْرِ وَلَوْ لَمْ يَخْطُبْ جَازَتْ الصَّلَاةُ؛ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ بِشَرْطٍ بِخِلَافِ خُطْبَةِ الْجُمُعَةِ وَقَوْلُهُ بِشَرْطِ الْإِمَامِ وَالْإِحْرَامِ يَعْنِي يَجُوزُ الْجَمْعُ بَيْنَ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ بِشَرْطِ أَنْ يُصَلِّيَهُمَا مَعَ الْإِمَامِ، وَهُوَ مُحْرِمٌ حَتَّى لَوْ صَلَّاهُمَا أَوْ صَلَّى أَحَدَهُمَا مُنْفَرِدًا أَوْ غَيْرَ مُحْرِمٍ لَمْ يَجُزْ لَهُ الْجَمْعُ وَالْمُرَادُ بِالْإِحْرَامِ إحْرَامُ الْحَجِّ ثُمَّ قِيلَ لَا بُدَّ مِنْ الْإِحْرَامِ قَبْلَ الزَّوَالِ لِيَجُوزَ الْجَمْعُ.
وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُحْرِمًا قَبْلَ الزَّوَالِ وَأَحْرَمَ بَعْدَهُ لَمْ يَجُزْ لَهُ الْجَمْعُ؛ لِأَنَّ الْجَمْعَ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ فَيُرَاعَى جَمِيعُ مَا وَرَدَ بِهِ الشَّرْعُ وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ يَكْتَفِي بِالتَّقْدِيمِ عَلَى الصَّلَاتَيْنِ لِحُصُولِ الْمَقْصُودِ وَمِنْ شَرْطِهِ أَنْ تَكُونَ صَلَاةُ الظُّهْرِ صَحِيحَةً حَتَّى لَوْ تَبَيَّنَّ فَسَادُهَا بَعْدَمَا صَلَّاهُمَا أَعَادَ الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ جَمِيعًا؛ لِأَنَّ جَوَازَ تَقْدِيمِ الْعَصْرِ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ فَيُرَاعَى جَمِيعُ مَا وَرَدَ بِهِ الشَّرْعُ وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَقَالَ زُفَرُ: تُرَاعَى هَذِهِ الشَّرَائِطُ فِي الْعَصْرِ خَاصَّةً؛ لِأَنَّهُ الْمُغَيَّرُ عَنْ وَقْتِهِ قُلْنَا التَّقْدِيمُ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ ثَبَتَ جَوَازُهُ بِالشَّرْعِ إذَا كَانَ مُرَتَّبًا عَلَى ظُهْرٍ مُؤَدَّاةٍ بِهَذِهِ الشَّرَائِطِ فَيَقْتَصِرُ عَلَيْهِ بِخِلَافِ الْجَمْعِ الثَّانِي، وَهُوَ الْجَمْعُ بِالْمُزْدَلِفَةِ؛ لِأَنَّ الْمَغْرِبَ مُؤَخَّرٌ عَنْ وَقْتِهِ فَلَا تُرَاعَى فِيهِ الشَّرَائِطُ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ لَا يُشْتَرَطُ إلَّا الْإِحْرَامُ فِي حَقِّ الْعَصْرِ حَتَّى قَالَا يَجُوزُ لِلْمُنْفَرِدِ أَنْ يَجْمَعَ بَيْنَهُمَا؛ لِأَنَّ جَوَازَ الْجَمْعِ لِلْحَاجَةِ إلَى امْتِدَادِ الْوُقُوفِ وَالْمُنْفَرِدُ يَحْتَاجُ إلَيْهِ قُلْنَا الْمُحَافَظَةُ فِي الْوَقْتِ فَرْضٌ بِالنَّصِّ فَلَا يَجُوزُ تَرْكُهُ إلَّا فِيمَا وَرَدَ النَّصُّ بِهِ وَلَا نُسَلِّمُ أَنَّ جَوَازَ التَّقْدِيمِ لِحَاجَةِ امْتِدَادِ الْوُقُوفِ بَلْ لِصِيَانَةِ الْجَمَاعَةِ؛ لِأَنَّهُ يَعْسُرُ عَلَيْهِمْ الِاجْتِمَاعُ بَعْدَمَا تَفَرَّقُوا فِي الْمَوْقِفِ، وَهَذَا؛ لِأَنَّ الصَّلَاةَ لَا تُنَافِي الْوُقُوفَ أَلَا تَرَى أَنَّ الِاشْتِغَالَ بِعَمَلٍ آخَرَ كَالنَّوْمِ وَالْأَكْلِ لَا يُنَافِيهِ فَعُلِمَ بِذَلِكَ أَنَّ التَّقْدِيمَ لِمَا ذَكَرْنَا لَا لِأَجْلِ الِامْتِدَادِ
وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ جَوَازُ الْجَمْعِ لِلْإِمَامِ وَحْدَهُ فَعِنْدَهُ لَا يَجُوزُ وَعِنْدَهُمَا يَجُوزُ وَلَوْ نَفَرُوا عَنْهُ بَعْدَ الشُّرُوعِ جَازَ لَهُ الْجَمْعُ وَاخْتَلَفُوا فِيمَا إذَا نَفَرُوا عَنْهُ قَبْلَ الشُّرُوعِ عَلَى قَوْلِهِ فَوَجْهُ الْجَوَازِ الضَّرُورَةُ إذْ لَا يَقْدِرُ أَنْ يَجْعَلَ غَيْرَهُ مُقْتَدِيًا بِهِ وَالْمُرَادُ بِالْإِمَامِ هُوَ الْإِمَامُ الْأَعْظَمُ أَوْ نَائِبُهُ وَلَوْ مَاتَ الْإِمَامُ، وَهُوَ الْخَلِيفَةُ جَمَعَ نَائِبُهُ أَوْ صَاحِبُ شُرْطَتِهِ؛ لِأَنَّ النُّوَّابَ لَا يَنْعَزِلُونَ بِمَوْتِ الْخَلِيفَةِ وَلَوْ لَمْ يَكُنْ لَهُ نَائِبٌ وَلَا صَاحِبُ شُرْطَةِ صَلُّوا كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا فِي وَقْتِهَا عِنْدَهُ لِمَا بَيَّنَّا
وَلَوْ أَحْدَثَ الْإِمَامُ فِي الظُّهْرِ فَاسْتَخْلَفَ غَيْرَهُ يَجْمَعُ الْمُسْتَخْلَفُ بَيْنَهُمَا؛ لِأَنَّهُ قَائِمٌ مَقَامَهُ وَهُمَا كَصَلَاةٍ وَاحِدَةٍ وَلَوْ جَاءَ الْإِمَامُ بَعْدَمَا فَرَغَ الْخَلِيفَةُ مِنْ الْعَصْرِ صَلَّى الْعَصْرَ فِي وَقْتِهَا وَلَا يَجُوزُ لَهُ الْجَمْعُ لِمَا ذَكَرْنَا وَلَوْ أَحْدَثَ بَعْدَ الْخُطْبَةِ قَبْلَ أَنْ يَشْرَعَ فِي الصَّلَاةِ فَاسْتَخْلَفَ مَنْ لَمْ يَشْهَدْ الْخُطْبَةَ جَازَ وَيَجْمَعُ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ.

قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - (ثُمَّ إلَى الْمَوْقِفِ وَقِفْ بِقُرْبِ الْجَبَلِ) أَيْ ثُمَّ رُحْ إلَى الْمَوْقِف وَقِفْ بِقُرْبِ الْجَبَلِ عِنْدَ الصَّخَرَاتِ السُّودِ الْكِبَارِ بِأَسْفَلِ الْجَبَلِ، وَهُوَ الْجَبَلُ الَّذِي بِوَسَطِ أَرْضِ عَرَفَاتٍ يُقَالُ لَهُ إلَالٌ عَلَى وَزْنِ هِلَالٍ؛ لِأَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «وَقَفَ فِي ذَلِكَ الْمَوْضِعِ وَالْجَبَلُ يُسَمَّى جَبَلَ الرَّحْمَةِ وَالْمَوْقِفُ الْمَوْقِفَ الْأَعْظَمَ فَيَقِفُ الْإِمَامُ بِمَوْقِفِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالنَّاسُ خَلْفَهُ وَاقِفُونَ مُسْتَقْبِلِينَ الْقِبْلَةِ رَافِعِي أَيْدِيهِمْ بِالدُّعَاءِ بَاسِطِينَ إلَى السَّمَاءِ مُتَضَرِّعِينَ مُتَخَشَّعِينَ وَالْوُقُوفُ عَلَى الرَّاحِلَةِ أَفْضَلُ اقْتِدَاءً بِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثُمَّ الْوُقُوفُ قَائِمًا» قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - «وَعَرَفَاتٌ كُلُّهَا مَوْقِفٌ إلَّا بَطْنَ عُرَنَةَ») لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «عَرَفَاتٌ كُلُّهَا مَوْقِفٌ وَارْتَفَعُوا عَنْ بَطْنِ عُرَنَةَ وَالْمُزْدَلِفَةِ كُلُّهَا مَوْقِفٌ وَارْتَفَعُوا
ـــــــــــــــــــــــــــــQقَوْلُهُ وَلَوْ تَطَوَّعَ بَيْنَهُمَا كُرِهَ إلَخْ) قَالَ فِي فَتْحِ الْقَدِيرِ وَمَا فِي الذَّخِيرَةِ وَالْمُحِيطِ مِنْ أَنَّهُ يُصَلِّي بِهِمْ الْعَصْرَ فِي وَقْتِ الظُّهْرِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَشْتَغِلَ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ بِالنَّافِلَةِ غَيْرَ سُنَّةِ الظُّهْرِ يُنَافِي حَدِيثَ جَابِرٍ قَالَ «فَصَلَّى الظُّهْرَ ثُمَّ أَقَامَ فَصَلَّى الْعَصْرَ، وَلَمْ يُصَلِّ بَيْنَهُمَا شَيْئًا» وَكَذَا يُنَافِي إطْلَاقَ الْمَشَايِخِ فِي قَوْلِهِمْ وَلَا يَتَطَوَّعُ بَيْنَهُمَا، فَإِنَّ التَّطَوُّعَ يُقَالُ عَلَى السُّنَّةِ قَوْلُهُ وَمَا فِي الذَّخِيرَةِ وَالْمُحِيطِ زَادَ فِي الدِّرَايَةِ وَشَرْحِ الطَّحَاوِيِّ. اهـ. (قَوْلُهُ حَتَّى لَوْ صَلَّاهُمَا أَوْ صَلَّى أَحَدَهُمَا مُنْفَرِدًا إلَخْ) قَالَ فِي الْغَايَةِ وَلَوْ أَدْرَكَ شَيْئًا مِنْ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا مَعَ الْإِمَامِ جَازَ لَهُ الْجَمْعُ اهـ.
(فَرْعٌ) قَالَ فِي الْغَايَةِ ثُمَّ إنْ اتَّفَقَ يَوْمُ عَرَفَةَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ لَا يُصَلِّي فِيهَا الْجُمُعَةَ اتِّفَاقًا وَمَا حَكَتْ الْمَالِكِيَّةُ مِنْ الْمُنَاظَرَةِ بَيْنَ الْقَاضِي أَبِي يُوسُفَ وَمَالِكٍ بَيْنَ يَدَيْ هَارُونَ الرَّشِيدِ لَا أَصْلَ لَهُمَا؛ لِأَنَّ أَبَا يُوسُفَ لَا يَرَى الْجُمُعَةَ فِي الْقُرَى فَكَيْفَ كَانَ يَرَى الْجُمُعَةَ فِي الْبَرَارِيِ وَحَكَى الْقُرْطُبِيُّ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ جَوَازَ الْجُمُعَةِ بِعَرَفَاتٍ، وَهُوَ غَلَطٌ. اهـ. (قَوْلُهُ وَالْمُرَادُ بِالْإِمَامِ هُوَ الْإِمَامُ الْأَعْظَمُ أَوْ نَائِبُهُ) أَيْ حَتَّى لَوْ صَلَّى الظُّهْرَ مَعَ غَيْرِ الْإِمَامِ الْأَعْظَمِ لَا يَجُوزُ الْجَمْعُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ كَمَا فِي الْمُنْفَرِدِ. اهـ. كَاكِيٌّ

(قَوْلُهُ فِي الْمَتْنِ وَقِفْ بِقُرْبِ الْجَبَلِ) قَالَ فِي الْفَتْحِ: وَاعْلَمْ أَنَّ أَوَّلَ وَقْتِ الْوُقُوفِ إذَا زَالَتْ الشَّمْسُ وَيَمْتَدُّ إلَى طُلُوعِ فَجْرِ يَوْمِ النَّحْرِ فَالْوُقُوفُ قَبْلَ ذَلِكَ وَبَعْدَهُ عَدَمٌ وَالرُّكْنُ سَاعَةٌ مِنْ ذَلِكَ وَالْوَاجِبُ إنْ وَقَفَ نَهَارًا مُدَّةً إلَى الْغُرُوبِ أَوْ لَيْلًا فَلَا وَاجِبَ فِيهِ (قَوْلُهُ وَالْوُقُوفُ عَلَى الرَّاحِلَةِ أَفْضَلُ) أَيْ لِلْإِمَامِ وَكَذَا هُوَ فِي مُخْتَصَرِ الْقُدُورِيِّ وَمَتْنِ الْهِدَايَةِ وَفَتَاوَى قَاضِي خَانْ وَعَلَّلَ لَهُ أَبُو نَصْرٍ الْأَقْطَعُ بِأَنَّ النَّاسَ يَقْتَدُونَ بِالْإِمَامِ فِي الدُّعَاءِ، فَإِذَا وَقَفَ عَلَى نَاقَتِهِ كَانَ أَبْلَغَ فِي مُشَاهَدَتِهِ وَأَمْكَنَ لِلِاقْتِدَاءِ بِهِ اهـ قَالَ فِي الْهِدَايَةِ وَيَنْبَغِي لِلْإِمَامِ أَنْ يَقِفَ بِعَرَفَةَ عَلَى رَاحِلَتِهِ؛ لِأَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «وَقَفَ عَلَى نَاقَتِهِ»، وَإِنْ وَقَفَ عَلَى قَدَمَيْهِ جَازَ وَالْأَوَّلُ أَفْضَلُ لِمَا بَيَّنَّا اهـ.

الصفحة 24