كتاب تبيين الحقائق شرح كنز الدقائق وحاشية الشلبي (اسم الجزء: 2)

عَنْ بَطْنِ مُحَسِّرٍ وَشِعَابُ مَكَّةَ كُلُّهَا مَنْحَرٌ» وَرَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَعَلَيْهِ إجْمَاعُ الْمُسْلِمِينَ فَيَكُونُ حُجَّةً عَلَى مَالِكٍ فِي تَجْوِيزِ الْوُقُوفِ بِبَطْنِ عُرَنَةَ وَإِيجَابِ الدَّمِ عَلَيْهِ

قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - (حَامِدًا مُكَبِّرًا مُهَلِّلًا مُلَبِّيًا مُصَلَّيَا دَاعِيًا) أَيْ قِفْ حَامِدًا لِلَّهِ تَعَالَى وَمُهَلِّلًا مُكَبِّرًا مُلَبِّيًا سَاعَةً بَعْدَ سَاعَةٍ عَلَى عَرَفَةَ وَتَدْعُو لِلَّهِ تَعَالَى بِحَاجَتِك لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَفْضَلُ الدُّعَاءِ دُعَاءُ يَوْمِ عَرَفَةَ وَأَفْضَلُ مَا قُلْته أَنَا وَالنَّبِيُّونَ مِنْ قَبْلِي لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ يُحْيِي وَيُمِيتُ، وَهُوَ حَيٌّ لَا يَمُوتُ بِيَدِهِ الْخَيْرُ، وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ» رَوَاهُ مَالِكٌ وَالتِّرْمِذِيُّ وَأَحْمَدُ وَغَيْرُهُمْ وَكَانَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «يَجْتَهِدُ فِي الدُّعَاءِ فِي هَذَا الْمَوْقِفِ» حَتَّى رُوِيَ أَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «دَعَا عَشِيَّةَ عَرَفَةَ لِأُمَّتِهِ بِالْمَغْفِرَةِ فَاسْتُجِيبَ لَهُ إلَّا فِي الدِّمَاءِ وَالْمَظَالِمِ ثُمَّ أَعَادَ الدُّعَاءَ بِالْمُزْدَلِفَةِ فَأُجِيبَ حَتَّى الدِّمَاءِ وَالْمَظَالِمِ» أَخْرَجَهُ ابْنُ مَاجَهْ وَعَنْ أَنَسٍ أَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «قَالَ، إنَّ اللَّهَ تَطَوَّلَ عَلَى أَهْلِ عَرَفَةَ فَيُبَاهِي بِهِمْ الْمَلَائِكَةَ فَقَالَ اُنْظُرُوا إلَى عِبَادِي شُعْثًا غُبْرًا أَقْبَلُوا يَضْرِبُونَ إلَيَّ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ فَاشْهَدُوا أَنِّي غَفَرْت لَهُمْ إلَّا التَّبَعَاتِ الَّتِي بَيْنَهُمْ قَالَ ثُمَّ، إنَّ الْقَوْمَ أَفَاضُوا مِنْ عَرَفَاتٍ إلَى جَمْعٍ فَقَالَ يَا مَلَائِكَتِي اُنْظُرُوا إلَى عِبَادِي وَقَفُوا وَعَادُوا فِي الطَّلَبِ وَالرَّغْبَةِ وَالْمَسْأَلَةِ اشْهَدُوا أَنِّي قَدْ وَهَبْت مُسِيئَهُمْ لِمُحْسِنِهِمْ وَتَحَمَّلْت التَّبَعَاتِ الَّتِي بَيْنَهُمْ» رَوَاهُ أَبُو ذَرٍّ الْهَرَوِيُّ وَيُلَبِّي سَاعَةً بَعْدَ سَاعَةٍ وَعَلَيْهِ أَهْلُ الْعِلْمِ
وَقَالَ مَالِكٌ يَقْطَعُ التَّلْبِيَةَ إذَا زَاغَتْ الشَّمْسُ مِنْ يَوْمِ عَرَفَةَ؛ لِأَنَّ عَلِيًّا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَطَعَهُ فِيهِ وَادَّعَوْا أَنَّهُ مَذْهَبُ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ وَعَائِشَةَ وَلَنَا مَا رَوَيْنَا مِنْ حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَحَدِيثِ الْفَضْلِ بْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَمْ يَزَلْ يُلَبِّي حَتَّى رَمَى جَمْرَةَ الْعَقَبَةِ» رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ فِي صَحِيحَيْهِمَا وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَأُسَامَةَ أَنَّهُمَا قَالَا «لَمْ يَزَلْ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُلَبِّي حَتَّى رَمَى جَمْرَةَ الْعَقَبَةِ» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ وَذَكَرَ فِي الْمُحَلَّى أَنَّ أَبَا بَكْرٍ كَانَ يُلَبِّي حَتَّى رَمَى جَمْرَةَ الْعَقَبَةِ وَكَذَا عُمَرُ وَعَلِيٌّ فَلَمْ يَصِحَّ النَّقْلُ عَنْهُمْ وَذَكَرَ الطَّحَاوِيُّ أَنَّ مَنْ قَطَعَ التَّلْبِيَةَ عِنْدَ الرَّوَاحِ إلَى عَرَفَةَ لَمْ يَكُنْ قَطَعَهُ لِانْتِهَاءِ وَقْتِ التَّلْبِيَةِ وَلَكِنْ كَانُوا يَأْخُذُونَ فِي غَيْرِهَا مِنْ الذِّكْرِ كَالتَّكْبِيرِ وَالتَّهْلِيلِ وَغَيْرِ ذَلِكَ؛ وَلِأَنَّ التَّلْبِيَةَ فِي الْإِحْرَامِ كَالتَّكْبِيرِ فِي الصَّلَاةِ عَلَى مَا تَقَدَّمَ فَيَأْتِي بِهَا إلَى آخِرِ جُزْءٍ مِنْ الْأَفْعَالِ فِي الْإِحْرَامِ ثُمَّ يَدْعُو اللَّهَ تَعَالَى بِحَاجَتِهِ بِمَا بَدَا لَهُ مِنْ الدَّعَوَاتِ رَافِعًا يَدَيْهِ؛ لِأَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «كَانَ يَجْتَهِدُ فِيهِ» وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: «رَأَيْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِعَرَفَاتٍ يَدْعُو وَيَدَاهُ إلَى صَدْرِهِ كَاسْتِطْعَامِ الْمِسْكِينِ» رَوَاهُ أَبُو ذَرٍّ وَيَقُولُ اللَّهُمَّ اجْعَلْ فِي بَصَرِي نُورًا وَفِي سَمْعِي نُورًا وَاجْعَلْنِي مِمَّنْ تُبَاهِي بِهِ مَلَائِكَتَك اللَّهُمَّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي اللَّهُمَّ، إنَّك تَسْمَعُ كَلَامِي وَتَرَى مَكَانِي وَتَعْلَمُ سِرِّي وَعَلَانِيَتِي وَلَا يَخْفَى عَلَيْك شَيْءٌ مِنْ أَمْرِي أَنَا الْبَائِسُ الْفَقِيرُ الْمُسْتَغِيثُ الْمُسْتَجِيرُ الْمَغْرُورُ أَسْأَلُك مَسْأَلَةَ الْمِسْكِينِ وَأَبْتَهِلُ إلَيْك ابْتِهَالَ الْمُذْنِبِ الذَّلِيلِ وَأَدْعُوك دُعَاءَ الْخَائِفِ الْحَقِيرِ وَمَنْ خَضَعَتْ لَك رَقَبَتُهُ وَفَاضَتْ لَك عَيْنَاهُ وَرَغِمَ لَك أَنْفُهُ وَلَا تَجْعَلْنِي بِدُعَائِك رَبِّ شَقِيًّا وَكُنْ بِي رَءُوفًا رَحِيمًا يَا خَيْرَ مَسْئُولٍ وَيَا أَكْرَمَ مَأْمُولٍ وَيَخْتَارُ مِنْ الدُّعَاءِ مَا شَاءَ وَيُكْثِرُ مِنْ التَّهْلِيلِ وَالتَّكْبِيرِ وَالتَّحْمِيدِ وَالتَّلْبِيَةِ وَتَعْظِيمِ الرَّغْبَةِ إلَى اللَّهِ تَعَالَى
وَيَقُولُ اللَّهُمَّ إنِّي أَسْأَلُك أَنْ تَغْفِرَ لِي مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِي وَتَعْصِمَنِي فِيمَا بَقِيَ مِنْ عُمْرِي وَتَفْتَحَ لِي أَبْوَابَ طَاعَتِك وَتُغْلِقَ عَنِّي أَبْوَابَ مَعْصِيَتِك وَتَحْفَظَنِي مِنْ بَيْنِ يَدِي وَمِنْ خَلْفِي وَعَنْ يَمِينِي وَعَنْ شِمَالِي وَمِنْ فَوْقِي وَمِنْ تَحْتِي وَتُلْبِسَنِي ثِيَابَ التَّقْوَى وَالْعَافِيَةِ أَبَدًا مَا أَبْقَيْتنِي وَتَرْحَمَنِي إذَا تَوَفَّيْتنِي وَتَجْعَلَنِي مِمَّنْ يَكْتَسِبُ الْمَالَ مِنْ حِلِّهِ وَيُنْفِقَهُ فِي سَبِيلِك يَا فَاطِرَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ ضَجَّتْ لَك الْأَصْوَاتُ بِصُنُوفِ اللُّغَاتِ يَسْأَلُونَك الْحَاجَاتِ وَحَاجَتِي أَنْ تَغْفِرَ لِي وَتَرْحَمَنِي فِي دَارِ الْبَلَاءِ إذَا نَسِيَنِي الْأَهْلُ وَالْأَقْرَبُونَ اللَّهُمَّ إلَيْك خَرَجْنَا وَبِفِنَائِك أَنَخْنَا وَإِيَّاكَ قَصَدْنَا وَمَا عِنْدَك طَلَبنَا وَلِإِحْسَانِك تَعَرَّضْنَا وَرَحْمَتِك رَجَوْنَا وَمِنْ عَذَابِك أَشْفَقْنَا وَلِبَيْتِك الْحَرَامِ حَجَجْنَا يَا مَنْ يَمْلِكُ حَوَائِجَ السَّائِلِينَ وَيَعْلَمُ مَا فِي ضَمَائِرِ الصَّامِتِينَ اللَّهُمَّ، إنَّا أَضْيَافُك وَلِكُلِّ ضَيْفٍ قِرًى فَاجْعَلْ قِرَانًا مِنْك الْجَنَّةَ وَلِكُلِّ سَائِلٍ عَطِيَّةٌ وَلِكُلِّ رَاجٍ ثَوَابٌ وَلِكُلِّ مُتَوَسِّلٍ إلَيْك عَفْوٌ يَا عَفُوُّ وَقَدْ وَفَدْنَا إلَى بَيْتِك الْحَرَامِ وَوَقَفْنَا بِهَذِهِ الْمَشَاعِرِ الْعِظَامِ وَشَاهَدْنَا هَذِهِ الْمَشَاهِدَ الْكِرَامَ رَجَاءً لِمَا عِنْدَك فَلَا تُخَيِّبْ رَجَاءَنَا وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَتَجَاوَزْ عَنَّا وَأَعْتِقْ رِقَابَنَا مِنْ النَّارِ اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الْبَشِيرِ النَّذِيرِ السِّرَاجِ
ـــــــــــــــــــــــــــــQقَوْلُهُ فَأُجِيبَ حَتَّى الدِّمَاءُ وَالْمَظَالِمُ) أَيْ بِالرَّفْعِ فِيهِمَا. اهـ. كَاكِيٌّ وَالْمَظَالِمُ جَمْعُ مَظْلَمَةٌ، وَهُوَ الظُّلْمُ أَوْ اسْمٌ لِلْمَأْخُوذِ ظُلْمًا يَعْنِي اُسْتُجِيبَ دُعَاؤُهُ فِي الدِّمَاءِ وَالْمَظَالِمِ أَيْضًا وَالْأَصْلُ أَنْ لَا يُسْتَجَابَ لِتَعَلُّقِ حُقُوقِ الْعِبَادِ بِهَا قِيلَ فِي جَوَابِهِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - الْخُصُومِ بِالِازْدِيَادِ فِي مَثُوبَاتِهِمْ حَتَّى تَرَكُوا خُصُومَاتِهِمْ فِيهِمَا وَاسْتَوْجَبُوا الْمَغْفِرَةَ اهـ كَاكِيٌّ (قَوْلُهُ لَمْ يَزَلْ يُلَبِّي حَتَّى رَمَى جَمْرَةَ الْعَقَبَةِ) وَزَادَ ابْنُ مَاجَهْ فِيهِ فَلَمَّا رَمَاهَا قَطَعَ التَّلْبِيَةَ. اهـ. كَمَالٌ (قَوْلُهُ؛ وَلِأَنَّ التَّلْبِيَةَ فِي الْإِحْرَامِ إلَخْ) قَالَ الْكَمَالُ وَالْوَجْهُ الَّذِي ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ مِنْ الْمَعْنَى يَقْتَضِي أَنْ لَا يَقْطَعَ إلَّا عِنْدَ الْحَلْقِ؛ لِأَنَّ الْإِحْرَامَ بَاقٍ قَبْلَهُ وَالْأَوْلَى أَنْ يَقُولَ فَيَأْتِي بِهَا إلَى آخِرِ الْأَحْوَالِ الْمُخْتَلِفَةِ فِي الْإِحْرَامِ، فَإِنَّهَا كَالتَّكْبِيرِ وَآخِرُهُ مَعَ الْقَعْدَةِ؛ لِأَنَّهَا آخِرُ الْأَحْوَالِ اهـ.
(ذِكْرُ مَا جَاءَ فِي وَقْفَةِ الْجُمُعَةِ فَائِدَةٌ).
لَوْ قَالَ امْرَأَتُهُ طَالِقٌ فِي أَفْضَلِ الْأَيَّامِ تَطْلُقُ يَوْمَ عَرَفَةَ وَقِيلَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «خَيْرُ يَوْمٍ طَلَعَتْ عَلَيْهِ الشَّمْسُ يَوْمُ الْجُمُعَةِ» وَالْأَصَحُّ أَنَّهَا تَطْلُقُ يَوْمَ عَرَفَةَ فَيُحْمَلُ حَدِيثُ يَوْمِ الْجُمُعَةِ عَلَى أَنَّهُ أَفْضَلُ أَيَّامِ الْأُسْبُوعِ مَا لَمْ يَكُنْ فِيهَا يَوْمُ عَرَفَةَ تَوْفِيقًا بَيْنَهُمَا. اهـ. شَرْحُ الْمَشَارِقِ لِابْنِ فِرِشْتَا فِي خَامِسِ بَابٍ

الصفحة 25