كتاب تبيين الحقائق شرح كنز الدقائق وحاشية الشلبي (اسم الجزء: 2)

الْمُنِيرِ الطَّيِّبِ الطَّاهِرِ الْمُبَارَكِ وَعَلَى آلِهِ الطَّيِّبِينَ الطَّاهِرِينَ وَسَلِّمْ تَسْلِيمًا كَثِيرًا رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ
وَيَجْتَهِدُ أَنْ يَقْطُرَ مِنْ عَيْنَيْهِ قَطَرَاتٍ مِنْ الدَّمْعِ، فَإِنَّهُ دَلِيلُ الْقَبُولِ وَيَدْعُو لِأَبَوَيْهِ وَأَهْلِهِ وَإِخْوَانِهِ وَأَصْحَابِهِ وَمَعَارِفِهِ وَجِيرَانِهِ وَيُلِحُّ فِي الدُّعَاءِ مَعَ قُوَّةِ الرَّجَاءِ لِلْإِجَابَةِ وَلَا يُقَصِّرُ فِيهِ فَإِنَّ هَذَا الْيَوْمَ لَا يُمْكِنُهُ تَدَارُكُهُ لَا سِيَّمَا إذَا كَانَ مِنْ الْآفَاقِ، وَهُوَ مَجْمَعٌ عَظِيمٌ وَمَوْقِفٌ جَلِيلٌ يَجْتَمِعُ فِيهِ خِيَارُ عِبَادِ اللَّهِ الْمُخْلِصِينَ وَخَاصَّتُهُ الْمُقَرَّبِينَ مِنْ الْأَوْلِيَاءِ وَالْأَخْيَارِ وَالْأَبْدَالِ، وَهُوَ مَقَامُ الْخَوْفِ وَأَعْظَمُ مَجَامِعِ الدُّنْيَا وَعَنْ الْفُضَيْلِ أَنَّهُ نَظَرَ إلَى بُكَاءِ النَّاسِ بِعَرَفَةَ فَقَالَ أَرَأَيْتُمْ لَوْ أَنَّ هَؤُلَاءِ صَارُوا إلَى رَجُلٍ فَسَأَلُوهُ دَانِقًا أَكَانَ يَرُدُّهُمْ قَالُوا لَا قَالَ وَاَللَّهِ لَلْمَغْفِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ أَهْوَنُ مِنْ إجَابَةِ رَجُلٍ بِدَانِقٍ. وَيَحْذَرُ كُلَّ الْحَذَرِ مِنْ الْمُخَاصَمَةِ وَالْمُشَاتَمَةِ وَالْمُنَافَرَةِ وَالْكَلَامِ الْقَبِيحِ فِيهِ ذِكْرُ مَا جَاءَ فِي وَقْفَةِ الْجُمُعَةِ عَنْ طَلْحَةَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ أَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - قَالَ «أَفْضَلُ الْأَيَّامِ يَوْمُ عَرَفَةَ إذَا وَافَقَ يَوْمَ جُمُعَةٍ، وَهُوَ أَفْضَلُ مِنْ سَبْعِينَ حَجَّةً فِي غَيْرِ جُمُعَةٍ» رَوَاهُ رَزِينُ بْنُ مُعَاوِيَةَ فِي تَجْرِيدِ الصِّحَاحِ وَذَكَرَ النَّوَوِيُّ فِي مَنَاسِكِهِ قِيلَ إذَا وَافَقَ يَوْمُ عَرَفَةَ يَوْمَ جُمُعَةٍ غُفِرَ
ـــــــــــــــــــــــــــــ Q ( قَوْلُهُ رَوَاهُ رَزِينٌ) قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ الْحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي شَرْحِ الْبُخَارِيِّ فِي تَفْسِيرِ الْمَائِدَةِ عِنْدَ قَوْلِ الْبُخَارِيِّ بَابُ قَوْلِهِ {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} [المائدة: 3] فِي أَثْنَاءِ كَلَامِهِ مَا نَصُّهُ وَأَمَّا مَا ذَكَرَهُ رَزِينٌ فِي جَامِعِهِ مَرْفُوعًا «خَيْرُ يَوْمٍ طَلَعَتْ فِيهِ الشَّمْسُ يَوْمُ عَرَفَهُ» وَافَقَ يَوْمَ جُمُعَةٍ، وَهُوَ أَفْضَلُ مِنْ سَبْعِينَ حَجَّةً فِي غَيْرِهَا فَهُوَ حَدِيثٌ لَا أَعْرِفُهُ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَذْكُرْ صَحَابِيَّهُ وَلَا مَنْ خَرَّجَهُ بَلْ أَدْرَجَهُ فِي حَدِيثِ الْمُوَطَّإِ الَّذِي ذَكَرَهُ مُرْسَلًا عَنْ طَلْحَةَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ جَرِيرٍ وَلَيْسَتْ الزِّيَادَةُ فِي شَيْءٍ مِنْ الْمُوَطَّآتِ اهـ قَالَ فِي الدِّيبَاجِ الْمُذَهَّبِ لِابْنِ فَرْحُونٍ رَزِينُ بْنُ مُعَاوِيَةَ بْنِ عَمَّارٍ أَبُو الْحَسَنِ الْعَبْدَرِيُّ الْأَنْدَلُسِيُّ السَّرَقُسْطِيُّ جَاوَرَ بِمَكَّةَ أَعْوَامًا وَحَدَّثَ بِهَا عَنْ أَبِي مَكْتُومٍ عِيسَى بْنِ أَبِي ذَرٍّ الْهَرَوِيِّ وَغَيْرِهِ ذَكَرَهُ السَّلَفِيُّ وَقَالَ شَيْخٌ عَالِمٌ، وَلَكِنَّهُ نَازِلُ الْإِسْنَادِ وَلَهُ تَآلِيفُ مِنْهَا كِتَابٌ جَمَعَ فِيهِ مَا فِي الصِّحَاحِ الْخَمْسَةِ وَالْمُوَطَّإِ وَكِتَابٌ فِي أَخْبَارِ مَكَّةَ وَقَالَ ابْنُ بَشْكُوَالَ كَانَ رَجُلًا صَالِحًا فَاضِلًا عَالِمًا بِالْحَدِيثِ وَغَيْرِهِ تُوُفِّيَ بِمَكَّةَ سَنَةَ خَمْسٍ وَعِشْرِينَ وَقِيلَ سَنَةَ خَمْسٍ وَثَلَاثِينَ وَخَمْسِمِائَةٍ اهـ وَقَدْ وَقَفْت عَلَى جُزْءٍ مُسَمًّى بِاللُّمْعَةِ فِي الْكَلَامِ عَلَى مَزِيَّةِ وَقْفَةِ يَوْمِ الْجُمُعَةِ تَأْلِيفُ الشَّيْخِ الْإِمَامِ الْعَالِمِ الْعَامِلِ الْعَلَّامَةِ تَاجُ الدِّينِ عُمَرُ الْإِسْكَنْدَرِيُّ اللَّخْمِيُّ الْمَالِكِيُّ الشَّهِيرُ بِابْنِ الْفَاكِهَانِيِّ تَغَمَّدَهُ اللَّهُ بِرَحْمَتِهِ وَنَفَعَنَا بِبَرَكَتِهِ قَالَ فِي دِيبَاجَتِهِ أَمَّا بَعْدُ حَمْدًا لِلَّهِ تَعَالَى وَالثَّنَاءُ عَلَيْهِ بِمَا هُوَ أَهْلُهُ وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى رَسُولِهِ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَإِنَّ جَمَاعَةً تَكَرَّرَ سُؤَالُهُمْ عَنْ مَزِيَّةِ وَقْفَةِ الْجُمُعَةِ عَلَى غَيْرِهَا مِنْ سَائِرِ الْأَيَّامِ وَقَصَدُوا الْجَوَابَ عَنْ ذَلِكَ مُبَيَّنًا فَقُلْت: وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقِ وَالْإِعَانَةِ لَا رَبَّ سِوَاهُ وَلَا مَعْبُودَ حَاشَاهُ الْمَزِيَّةُ مِنْ ذَلِكَ مِنْ خَمْسَةِ أَوْجُهٍ (الْأَوَّلُ) أَنَّهَا وَقْفَةُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَكَانَتْ فِي السَّنَةِ الْعَاشِرَةِ، وَهِيَ حَجَّةُ الْوَدَاعِ وَلَمْ يَحُجَّ بَعْدَ الْهِجْرَةِ سِوَاهَا وَحَجَّ الْفَرْضَ حَجَّتَيْنِ وَفِيهَا مَاتَ إبْرَاهِيمُ بْنُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي يَوْمِ عَرَفَةَ عَشِيَّةَ الْجُمُعَةِ نَزَلَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} [المائدة: 3] وَمَعْلُومٌ قَطْعًا أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، إنَّمَا يَخْتَارُ لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْأَفْضَلَ كَمَا اخْتَارَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ خَيْرِ خَلْقِهِ وَاخْتَارَ لَهُ خَيْرَ الْأُمَمِ قَالَ تَعَالَى {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} [آل عمران: 110] وَاخْتَارَ لَهُ مِنْهَا خَيْرَ أَصْحَابِهِ وَأَنْزَلَ عَلَيْهِ خَيْرَ الْكُتُبِ، وَهُوَ الْقُرْآنُ الْعَظِيمُ. (الْوَجْهُ الثَّانِي) أَنَّ الْأَعْمَالَ تُشَرَّفُ بِشَرَفِ الْأَزْمِنَةِ كَمَا تُشَرَّفُ بِشَرَفِ الْأَمْكِنَةِ وَيَوْمُ الْجُمُعَةِ أَفْضَلُ أَيَّامِ الْأُسْبُوعِ ثَبَتَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ «خَيْرُ يَوْمٍ طَلَعَتْ فِيهِ الشَّمْسُ يَوْمُ الْجُمُعَةِ فِيهِ خُلِقَ آدَم وَفِيهِ أُدْخِلَ الْجَنَّةَ وَفِيهِ أُخْرِجَ مِنْهَا وَلَا تَقُومُ السَّاعَةُ إلَّا فِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ» زَادَ مَالِكٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي الْمُوَطَّإِ وَابْنُ دَاوُد وَغَيْرُهُمَا بِأَسَانِيدَ عَلَى شَرْطِ الْبُخَارِيِّ وَمُسْلِمٍ وَفِيهِ «تِيبَ عَلَيْهِ وَفِيهِ مَاتَ وَمَا مِنْ دَابَّةٍ إلَّا، وَهِيَ مُصِيخَةٌ يَوْمَ الْجُمُعَةِ مِنْ حِينِ تُصْبِحُ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ شَفَقًا مِنْ السَّاعَةِ إلَّا الْجِنَّ وَالْإِنْسَ». (قُلْت) مُصِيخَةٌ بِالْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ وَفِي أَبِي دَاوُد مَسِيخَةٌ بِالسِّينِ أَيْ مُصْغِيَةٌ مُسْتَمِعَةٌ قَالَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرِ بْنُ الْعَرَبِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي كِتَابِ الْجُمُعَةِ مِنْ شَرْحِ التِّرْمِذِيِّ كَوْنُ الْخَيْرِ الْمُتَنَاهِي فِي الْأَشْخَاصِ وَالْأَمْكِنَةِ وَالْأَزْمِنَةِ وَلِلَّهِ تَعَالَى أَنْ يُفَضِّلَ مَا شَاءَ وَيُقَدِّمُهُ عَلَى غَيْرِهِ فَخَيْرُ الْأَشْخَاصِ مُحَمَّدٌ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَخَيْرُ الْأُمَمِ أُمَّتُهُ وَخَيْرُ الْبِقَاعِ مَكَّةُ وَالْمَدِينَةُ عَلَى اخْتِلَافٍ وَخَيْرُ الْأَزْمِنَةِ يَوْمُ الْجُمُعَةِ وَخَيْرُ سَاعَاتِهَا السَّاعَةُ الَّتِي يُسْتَجَابُ فِيهَا الدُّعَاءُ اهـ وَعَظَّمَتْ الْيَهُودُ يَوْمَ السَّبْتِ لَمَّا كَانَ تَمَامُ الْخَلْقِ فِيهِ فَظَنَّتْ أَنَّ ذَلِكَ يُوجِبُ لَهُ فَضِيلَةً وَعَظَّمَتْ النَّصَارَى يَوْمَ الْأَحَدِ لَمَّا كَانَ بَدْءُ الْخَلْقِ فِيهِ وَكُلُّ ذَلِكَ بِحُكْمِ عُقُولِهِمْ وَهَدَى اللَّهُ هَذِهِ الْأُمَّةَ الْمُحَمَّدِيَّةَ لِسَبَبِ الِاتِّبَاعِ فَعَظَّمَتْ مَا عَظَّمَ اللَّهُ وَقَدْ قِيلَ، إنَّ مُوسَى - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أَمَرَهُمْ بِالْجُمُعَةِ وَفَضَّلَهَا فَنَاظَرُوهُ فِي ذَلِكَ وَخَالَفُوهُ وَاعْتَقَدُوا أَنَّ السَّبْتَ أَفْضَلُ فَأَوْحَى اللَّهُ تَعَالَى إلَيْهِ دَعْهُمْ وَمَا اخْتَارُوا وَكَانَ يَوْمُ الْجُمُعَةِ مِنْ الْأَيَّامِ الْمُعَظَّمَةِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَالْإِسْلَامِ وَلَمْ تَزَلْ الْأَنْبِيَاءُ يُخْبِرُونَ أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَظَّمَهُ مِنْ حَيْثُ، إنَّ فِيهِ تَمَامَ الْخَلْقِ وَكَمَالَ الزِّيَادَةِ فَهُوَ أَحَدُ الْأَسْبَابِ الَّتِي اُخْتُصَّ بِهَا وَاقْتَضَتْ تَشْرِيفَهُ قَالَ مُجَاهِدٌ فِي قَوْله تَعَالَى {خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ} [الأعراف: 54] قَالَ أَوَّلُهَا الْأَحَدُ وَآخِرُهَا الْجُمُعَةُ فَلَمَّا اجْتَمَعَ خَلْقُهَا يَوْمَ الْجُمُعَةِ جَعَلَهُ اللَّهُ عِيدًا لِلْمُسْلِمِينَ وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى تَفْضِيلِ يَوْمِ الْجُمُعَةِ مَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ «أُتِيتُ بِمِرْآةٍ فِيهَا نُكْتَةٌ سَوْدَاءُ وَفِي رِوَايَةِ بَيْضَاءُ فَقُلْت يَا جِبْرِيلُ مَا هَذِهِ الْمِرْآةُ قَالَ هَذِهِ يَوْمُ الْجُمُعَةِ قُلْت مَا هَذِهِ النُّكْتَةُ قَالَ هَذِهِ السَّاعَةُ الَّتِي فِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ» قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ السِّرُّ فِي كَوْنِهَا سَوْدَاءَ هُوَ انْبِهَامُهَا وَالْتِبَاسُ عَيْنِهَا وَبَيَاضُهَا عَلَى مُقْتَضَى الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى تَنْبِيهٌ عَلَى شَرَفِهَا وَخُصُوصِيَّتِهَا مِنْ حَيْثُ، إنَّ الْبَيَاضَ أَشْرَفُ الْأَلْوَانِ وَكَانَ الْجُمُعَةُ مِنْ الْأَيَّامِ الْمُعَظَّمَةِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَالْإِسْلَامِ كَمَا تَقَدَّمَ اهـ.

الصفحة 26