كتاب ذكريات - علي الطنطاوي (اسم الجزء: 2)

أقول: إنني كنت كما كان إخواني وأمثالي يعرفون سنة 1933 كل شيء عن مصر وأدباء مصر ورجال مصر والأحزاب في مصر، ولكن أهل مصر لم يكونوا (إلاّ نفراً منهم) يعرفون عنّا شيئاً. ولا يغضبْ أحدٌ من هذا الكلام ولا يعتبْ أحد، فأنا أسجّل تاريخاً وأكتب عمّا كان، لا أكتب عن مصر وأبنائها الآن، فقد هدّوا اليوم السور الذي كانوا يحبسون أنفسهم وسطه وانطلقوا في البلدان، فلهم في كلّ بلد وجود وفي كلّ مكان أثر طيّب محمود. وإنما أتكلم عمّا كان قبل خمسين سنة، وسيمرّ بكم في هذه الذكريات أنها لمّا وُحِّدت محكمتا النقض في سوريا ومصر أيام الوحدة وذهبنا لعقد الجمعية العمومية للمحكمة في القاهرة (وكنت مستشاراً فيها) قلت هذا الكلام في خطبة في نادي القضاة، وضربت أمثلة واقعة ممّا كان من جهل المصريين يومئذ بأحوالنا في الشام وفي العراق. ما كان أكثرهم يفرّق بوضوح بين سوريا ولبنان وفلسطين، كلها بَرّ الشام وكلهم إخواننا العرب، كما أننا -في الشام- لم تكن في أذهاننا صورة واضحة عن طرابلس وتونس والجزائر والمغرب، كلها بلاد المغرب وكلهم إخواننا المغاربة.
وما ذلك بذنبنا ولا ذنب المصريين، ولكنه أثر الاستعمار، فلما زال الاستعمار (أعني الاستعمار العسكري) صار من المصريين مَن هو أعرف ببلدي وبلاد العرب مني ومن أهل تلك البلاد. ومصر بلد الأزهر لا تعيش بغير العرب، والعرب لا يعيشون بغير مصر، ونحن ومصر لا نعيش ولا نعتزّ ولا نَقوى ولا نَشْرُف إلاّ بالإسلام، فإنْ أعرضنا عنه فلا شرف لنا بل ولا وجود.

الصفحة 396