كتاب تشنيف المسامع بجمع الجوامع (اسم الجزء: 3)
فَلَعْلَ سَبَبَ ذلكَ أنَّه لاحَظَ عِندَ وَضْعِ العُنْوَانِ الرَّدَّ علَى مَن اعْتَبَرَ المَصلَحَةَ المُرْسَلَةَ أصْلاً مُسْتَقِلاًّ بِذاتِه، ولاَحَظَ في غِمارِ بَحْثِه بَعْدَ ذلكَ إِيضاحَ أنَّها مَقْبُولَةٌ مِن حيثُ ذاتِها بِقَطْعِ النَّظَرِ عنْ عَدِّها أَصْلاً مُسْتَقِلاًّ.
وأمَّا الَّذينَ مَالُوا إلى القَولِ بِالمَصْلَحةِ المُرْسَلَةِ، ونَقَلوا عنْ مُعْظَمِ الأَئِمَّةِ اعْتِبارَها كإِمامِ الحَرَمَينِ والغَزَاِليِّ وغَيرِهِما، إنَّما أرَادُوا بِذلكَ اعْتِبارَها داخِلَةً في الأُصولِ الأُخْرَى، فَكَلامُهمْ بِهذا القَصْدِ أيضاً صَحيحٌ، لأِنَّ عامَّةَ الأَئِمَّةِ ياخُذُونَ بِها عَلى هذا الأَساسِ، فكانَ يَنبَغِي أنْ يَخْرُجَ اخْتِلافُ العُلَماءِ في هذه المَسْأَلَةِ على هذا الوَجْهِ، حتَّى يُمْكنَ التَّوافُقُ والانْسِجامُ بَينَ كَلامِهمْ، فَمَحَلُّ الخِلافِ بَينِ العُلَماءِ إِذَنْ لَيسَ في اعْتِبارِ المَصْلحَةِ في حَدِّ ذاتِها فَهذا أَمْرٌ مُتَّفَقٌ عليهِ بَينَ جُمْهُورِ العُلَماءِ، وإِنَّما هُوَ في أنَّها هَلْ تُعْتَبَرُ أصْلاً مُسْتَقِلاًّ بِذاتِه أَمْ مُنْدَرِجَةً في الأُصولِ الأُخْرَى.
ثَالِثاً: عَدَمُ التَّثَبُّتِ والتَّأَكُّدِ مِن الآرَاءِ المُسْنَدَةِ إلى الإِمامِ مَالِكٍ في القَضايَا الَّتي مَبْناها المَصالِحُ المُرْسَلَةُ، والَّتي نُقِلَ عنه بِسَبَبِها أنَّه أَفْرَطَ واسْتَرْسَلَ في الأَخْذِ بِالمَصالِحِ المُرْسَلَةِ، ولَمْ يَلْتَفِتْ فيها إلى ضَرُورَةِ مُلاءَمَتِها لأُصُولِ الشَّرْعِ وتَصَرُّفَاتِه، كاسْتِحْلالِ القَتْلِ، وأَخْذِ المَالِ لِمَصالِحَ يَقْتَضِيهَا غالِبُ الظَّنِّ، وقَتْلِ ثُلُثِ الأُمَّةِ لاِسْتِبْقاءِ ثُلُثَيْها، كَذا حَكاهُ عَنه إِمامُ الحَرَمَينِ في (البُرْهانِ).
فَالواقِعُ أنَّ هذهِ المَسائِلَ لَمْ يَقُلْ بِها الإِمامُ مَالِكٌ، ولا أَحَدٌ مِن أَصْحابِهِ ولا أَساسَ لَه مِن الصِّحَّةِ، وَإَنَّما نَسَبَهُ إِلَيه بَعْضُ العُلَمَاءِ؛ فَلَيسَ بِمَعْقُولٍ أَنْ يَقولَ ذلكَ إِمامُ دارِ الهِجْرَةِ الَّذي عُرِفَ بِاتِّباعِه لِلسُّنَّةِ حتَّى يَتَصوَّرَ المُتَتَبِّعُ لِفِقْهِهِ وأقْوالِهِ أنَّه مُقَلِّدٌ لِمَن قَبْلَه، والَّذي تَفَرَّدَ بِه الإِمامُ مَالِكٌ هُوَ تَوسِعَتُه في المُعامَلاتِ؛ نَظَراً لِتَطْبيقِ هذه القاعِدَةِ في هذا البابِ أَكْثَرَ مِن غَيرِه مِن الفُقَهاءِ، فَشَمَلَتْ كَثِيراً مِن أبْوابِ الفِقْهِ، فقَدْ اسْتَرْسَلَ في المَعانِي المَصْلَحِيَّةِ في بابِ المُعامَلاتِ مَعَ فَهْمِهِ لِلنُّصوصِ مِن الكِتابِ والسُّنَّةِ غَيرَ خارِجٍ عَن مَقْصودِ الشَّارِعِ وغَيرَ مُناقِضٍ له، وقدْ أَثْنَى على الإِمامِ مَالِكٍ الإِمَامُ أَحْمَدٌ، وأبُو دَاوُدَ، وابْنُ مَهْدِي، وإِبْرَاهِيمُ بْنُ يَحْيَى بِالاتِّباعِ ومُلازَمَةِ السُّنَّةِ.
الصفحة 25
988