كتاب تشنيف المسامع بجمع الجوامع (اسم الجزء: 3)
قالَ أبُو العِزِّ المُقْتَرِحِ =في حَواشِيهِ على (البُرْهانِ): إنَّ هذا القَولَ لَمْ يَصِحَّ عنْ مالِكٍ، هكَذا قَالَه أصْحابُه، وأنْكَرَهُ ابْنُ شَاشٍ في (التَّحْرِيرِ) علَى الإِمامِ، وقَالَ: أقْوالُه تُؤْخَذُ مِن كُتُبِهِ وكُُتُبِ أصْحابِه لا مِن نَقْلِ النَّاقِلينَ، وكذلكَ اسْتَنْكَرَه القُرْطُبِيُّ، وقالَ: ذَهبَ الشَّافِعِيُّ ومُعْظَمُ أصْحابِ أبِي حَنِيفَةَ إِلى الاعْتِمادِ عَليه، وهُوَ مَذْهَبُ مالِكٍ، قالَ: وقدْ اجْتَرَأَ إِمامُ الحَرَمَينِ وجازَفَ فِيما نَسَبَهُ إلَى مَالِكٍ رَحِمَهُ اللَّهُ مِن الإِفْرَاطِ في هذا الأَصْلِ، وهذا لا يُوجَدُ في كِتابِ مَالِكٍ، ولا فِي شَيءٍ مِن كُتُبِ أصْحابِه.
رَابِعاً: نُقِلَ عَن الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ إِنْكارُ الاسْتِحْسانِ بِشِدَّةٍ، واعْتِبارُهُ قَولاً بالتَّشَهِّي وتَشْريعاً بِالهَوَى، دُونَ أنْ يَسْتَثْنِيَ مِن ذلكَ بِعِبارَةٍ صَرِيحَةٍ مَا اسْتَنَدَ فيهِ المُجْتَهِدُ إلَى مَصْلَحَةٍ مُرْسَلَةٍ داخِلَةٍ ضِمْنَ مَقاصِدِ الشَّارِعِ مُلائِمَةٍ لأِحْكامِه وتَصَرُّفاتِه، مِمَّا جَعَلَ كَثيراً مِمَّن لَمْ يَتَدَبَّرُوا أُصُولَ الشَّافِعِيِّ وطُرُقَ اجْتِهاداتِه يَظُنُّونَ أَنَّ الشَّافِعِيَّ يُنْكِرُ الأَخْذَ بِالمَصْلَحَةِ المُرسَلَةِ، لأِنَّهم يَتَصَوَّرُونَ أنَّ مَحَلَّ البَحْثِ إنَّما هُوَ في حُكْمِ المَصْلَحَةِ المُرْسَلةِ مِن حَيث ُاعْتِبارِها أصْلاً مُسْتَقِلاًّ بِذاتِه، ولَمْ يَرَوا مَا يُوجِبُ التَّفْرِقَةَ بَينَ الاسْتِحْسانِ الَّذي يُنْكِرُه الشَّافِعِيُّ وبَينَ المَصلَحَةِ المُرْسَلَةِ الَّتي لَمْ يُرِدْها فِي شَيءٍ مِن أُصُولِه وكِتابَاتِه، وأنَّ في اسْتِدْلاَلاَتِ الشَّافِعِيِّ علَى رَدِّ الاسْتِحْسانِ ما يَكْفِي لِرَدِّ المَصْلَحَةِ المُرْسَلَةِ أيضاً.
والوَاقِعُ أنَّ السَّبَبَ الأَوَّلَ والثَّانِيَ شَكْلِيَّانِ لا يُخْرِجانِ المَصلَحَةَ المُرْسَلَةَ عَن الاحْتِجاجِ بِها، إذْ مَدارُهُما عَلَى تَحْديدِ المَقْصودِ بِالمَصالِحِ المُرْسَلَةِ الَّتي تُعْتَبَرُ حُجَّةً، هَلْ هِيَ المَصالِحُ الغَرِيبَةُ المَسْكُوتُ عَنها، أو المَصالِحُ المُلائِمَةُ لِمَقاصِدِ الشَّارعِ الَّتي شَهِدَ لِجِنْسِها بِالاعْتِبارِ، وهَلْ المَقْصودُ بِاعْتِبارِها حُجَّةً كَونُها أصْلاً مُسْتَقِلاًّ بِذاتِه أو كَونُها مُنْدَرِجَةً في دَليلٍ آخَرَ؟
أمَّا السَّبَبُ الثَّالِثُ: فقَدْ أشَرْنَا أنَّ الإِمَامَ مالِكاً لَمْ يَعْمَلْ بِالمَصْلَحَةِ المُرْسَلَةِ إلاَّ إذا كانَتْ مُسْتَكْمِلَةً لِمَا اشْتَرَطَهُ فِيها مِن كَونِها مُلائِمةً لِتَصَرُّفاتِ الشَّارِعِ، ودَاخِلَةً تَحْتَ
الصفحة 26
988