كتاب نهاية الأرب في فنون الأدب ـ العلمية (اسم الجزء: 4)
"""""" صفحة رقم 160 """"""
للاستلذاذ ، فلا يجوز أن يحرم من حيث إنه كلام مفهوم مؤدى بأصوات طيبة وألحان موزونة .
الدرجة الرابعة : النظر فيه من حيث إنه محرك للقلب ومهيج لما هو الغالب عليه ، قال أبو حامد : فأقول : لله سبحانه تعالى سر في مناسبة النغمات الموزونة للأرواح حتى أنها لتؤثر فيها تأثيراً عجيباً . فمن الأصوات ما يفرح ومنها ما يحزن ومنها ما ينوم ومنها ما يضحك ويطرب ومنها ما يستخرج من الأعضاء حركات على وزنها باليد والرجل والرأس . ولا ينبغي أن يظن أن ذلك لفهم معاني الشعر بل هذا جار في الأوتار حتى قيل : من لم يحركه الربيع وأزهاره والعود وأوتاره فهو فاسد المزاد ليس له علاج . وكيف يكون ذلك بفهم المعنى ، وتأثيره مشاهد في الصبي في مهده فإنه يسكته الصوت الطيب عن بكائه ، وتنصرف نفسه عما يبكيه إلى الإصغاء إليه . والجمل مع بلادة طبعه يتأثر بالحداء تأثيراً يستخف معه الأحمال الثقيلة ويستقصر لقوة نشاطه في سماعه المسافات الطويلة ، وينبعث فيه من النشاط ما يسكره ويولهه ، فتراها إذا طالت عليها البوادي واعتراها الإعياء والكلال تحت المحامل والأحمال إذا سمعت منادي الحداء تمد أعناقها وتصغي إلى الحادي ناصبة آذانها وتسرع في سيرها حتى تتزعزع عليها أحمالها ومحاملها ، وربما تتلف أنفسها في شدة السير وثقل الحمل وهي لا تشعر بها لنشاطها .
فقد حكى أبو بكر محمد بن داود الدينوري المعروف بالرقي ، قال : كنت في البادية فوافيت قبيلة من قبائل العرب فأضافني رجل منهم وأدخلني خباء فرأيت في الخباء عبداً أسود مقيداً بقيد ، ورأيت جمالاً قد ماتت بين يدي البيت وقد بقي منها جمل وهو ناحل ذابل كأنه ينزع روحه . فقال لي الغلام : أنت ضيف ولك حق فتشفع في حقي إلى مولاي فإنه مكرم لضيفه فلا يرد شفاعتك فعساه يحل القيد عني . فلما أحضروا الطعام امتنعت وقلت : لا آكل ما لم أشفع في هذا العبد ، فقال : إن هذا العبد قد أفقرني وأهلك جميع مالي ، فقلت : ماذا فعل ؟ فقال : إن له صوتاً طيباً ، وإني كنت أعيش من ظهور هذه الجمال فحملها أحمالاً ثقالاً وكان يحدو بها حتى قطعت مسيرة ثلاث ليال في ليلة من طيب نغمته فلما حطت أحمالها موتت كلها إلا هذا الجمل الواحد ، ولكن أنت ضيفي فلكرامتك قد وهبته لك قال : فأحببت أن أسمع صوته ، فلما أصبحنا أمره أن