كتاب نهاية الأرب في فنون الأدب ـ العلمية (اسم الجزء: 4)
"""""" صفحة رقم 169 """"""
عن نفسه . ومهما فني عن نفسه فهو عن غيره أفنى ، فكأنه فني عن كل شيء إلا عن الواحد المشهود ، وفني أيضاً عن الشهود فإن القلب إن التفت إلى الشهود وإلى نفسه بأنه مشاهد فقد غفل عن المشهود . فالمستهتر بالمرئي لا التفات له في حال استغراقه إلى رؤيته ولا إلى عينه التي بها رؤيته ولا إلى قلبه الذي به لذته . فالسكران لا خبر له في سكره ، والملتذ لا خبر له في التذاذه ، إنما خبره من الملتذ به فقط ، ولكن هذا في الغالب يكون كالبرق الخاطف الذي لا يثبت ولا يدوم وإن دام لم تطقه القوة البشرية فربما يضطرب تحت أعبائه اضطراباً تهلك فيه نفسه كما روي عن أبي الحسن النوري أنه سمع هذا البيت :
ما لت أنزل من ودادك منزلاً . . . تتحير الألباب دون نزوله
فقام وتواجد وهام على وجهه ووقع في أجمة قصب قد قطعت وبقيت أصولها مثل السيوف فصار يعدو فيها ويعيد البيت إلى الغداة والدم يجري من رجليه حتى ورمت قدماه وساقاه ومات بعد أيام رحمه الله .
قال أبو حامد : وهذه درجة الصديقين في الفهم والوجد وهي أعلى الدرجات ، لأن السماع على الأحوال وهي ممتزجة بصفات البشرية نوع قصور ، وإنما الكمال أن يفنى بالكلية عن نفسه وأحواله . أعني أنه ينساها فلا يبقى له التفات إليها كما لم يكن للنسوة التفات إلى اليد والسكين . فيسمع بالله ، وفي الله ، ومن الله ، وهذه رتبة من خاض لجة الحقائق وعبر ساحل الأحوال والأعمال واتحد بصفاء التوحيد وتحقق بمحض الإخلاص فلم يبق فيه منه شيء أصلاً ، بل خمدت بالكلية بشريته وفني التفاته إلى صفات البشرية رأساً . قال : ولست أعني بفنائه فناء جسده بل فناء قلبه ، ولست أعني بالقلب اللحم والدم بل سر لطيف له إلى القلب الظاهر نسبة خفية وراءها سر الروح الذي هو من أمر الله عرفها من عرفها وجهلها من جهلها ولذلك السر وجود إلا للحاضر . ومثاله المرآة المجلوة ، إذ ليس لها لون في نفسها بل لونها لون