كتاب نهاية الأرب في فنون الأدب ـ العلمية (اسم الجزء: 4)

"""""" صفحة رقم 198 """"""
أين أنا منك ثم لم ينتفع مخارق بنفسه بقية يومه في شيءٍ من غنائه ، والله لكأنما كان يتحدث .
وروى عن منصور بن المهدي قال : كنت عند أخي إبراهيم في يوم كانت عليه فيه نوبة لمحمد الأمين ، فتشاغل بالشرب في بيته ولم يمض ، وأرسل إليه الأمين عدة رسل فتأخر . قال منصور : فلما كان من غدٍ قال لي : ينبغي أن نعمل على الرواح إلى أمير المؤمنين فنترضاه ، فما أشك في غضبه علينا ، فمضينا فسألنا عن خبره فأعلمنا أنه مشرف على حير الوحش وهو مخمور ، وكان من عادته ألا يشرب إذا لحقه الخمار . فدخلنا ، وكان طريقنا على حجرة تصنع فيها الملاهي ، فقال لي : اذهب فاختر منها عودا ترضاه وأصلحه غاية الإصلاح حتى لا يحتاج إلى إصلاحه وتغييره عند الضرب به ؛ ففعلت وجعلته في كمي . ودخلنا على الأمين وظهره إلينا . فلما بصرنا به من بعدٍ قال : أخرج عودك فأخرجته ، فاندفع يغني :
وكأسٍ شربت على لذّةٍ . . . وأخرى تداويت منها بها
لكي يعلم الناس أني أمرؤٌ . . . أتيت الفتوة من بابها
وشاهدنا الورد والياسمي . . . ن والمسمعات بقصّابها
وبربطنا دائمٌ معملٌ . . . فأيّ الثلاثة أزرى بها
فأستوى الأمين جالسا وطرب طرباً شديدا وقال : أحسنت والله يا عم وأحييت لي طربا . ودعا برطل فشربه على الريق وابتدأ شربه . قال منصور : وغنى إبراهيم يومئذ على أشد طبقة يتناهى إليها في العود ، وما سمعت مثل غنائه يومئذ قط . ولقد رأيت منه شيئاً عجيبا لو حدثت به ما صدقت : كان إذا ابتدأ يغني صغت الوحوش إليه ومدت أعناقها ، ولم تزل تدنو حتى تكاد تضع رءوسها على الدكان الذي كنا عليه ، فإذا سكت نفرت وبعدت عنا حتى تنتهي إلى أبعد غاية يمكنها التباعد عنا فيها ، وجعل الأمين يعجب من ذلك . وأنصرفنا من الجوائز بما لم ينصرف بمثله قط .

الصفحة 198