كتاب نهاية الأرب في فنون الأدب ـ العلمية (اسم الجزء: 4)

"""""" صفحة رقم 223 """"""
قال : فقد جاء به عبد الله صحيح العمل مزدوج النغم بين لين وشدة على رسم الحذاق القدماء . قال عبيد الله وذكر صوتا من أصواته : لما صنع أبي هذا الصوت لم يحب أن يسمع عنه شيء من الغناء ولا ينسب إليه ؛ لأنه كان يترفع عن ذلك ، وما جس بيده وتراً قط ولا تعاطاه ، ولكنه كان يعلم من هذا الشأن بطول الدربة وحسن الثقافة ما لا يعرفه كثير . قال : وبلغ من علم ذلك إلى أن صنع في أبيات أصواتا كثيرة ، فألقاها على جواريه ، فأخذتها عنه وغنين بها وسمعها الناس منهن وممن أخذ عنهن . فلما أن صنع هذا الصوت .
هلاّ سقيتم بني سهمٍ أسيركم . . . نفسي فداؤك من ذي غلّةٍ صادى
نسبه إلى مالك بن أبي السمح . وكانت لآل الفضل بن الربيع جارية يقال لها راحة ، وكانت ترغب إلى عبد الله لما ندبه المأمون إلى مصر ، وكانت تغنيه ؛ وأخذت هذا الصوت عن جواريه ، وأخذه المغنون عنها ، وروى لمالك بن أبي السمح مدة . ثم قدم عبد الله العراق ، فحضر مجلس المأمون وغنى الصوت بحضرته ونسب إلى مالك ؛ فضحك عبد الله ضحكا كثيرا ؛ فسئل عن القصة فصدق فيها وأعترف بصنعة الصوت . وكشف المأمون عن القصة ؛ فلم يزل كل من سئل عنه يخبر عمن أخذه ، فينتهي بالقصة إلى راحة ويقف فلا يعدوها . فأحضرت راحة وسئلت فأخبرت بقصته ؛ فعلم أنه من صنعته حينئذ بعد أن جاز على إسحاق وطبقته أنه لمالك . ويقال : إنه لم يعجب من شيء عجبه من حذق عبد الله بمذاهب الأوائل وحكاياتهم .
وأما عبيد الله ، ويكنى أبا أحمد . قال أبو الفرج الأصبهاني : له محلٌ من الأدب والتصرف في فنونه ورواية الشعر وقوله والعلم باللغة وأيام الناس وعلوم الأوائل من الفلاسفة في الموسيقى والهندسة وغير ذلك مما يجل عن الوصف ويكثر ذكره . وله صنعةٌ في الغناء حسنة متقنة عجيبة تدل على ما ذكرناه ها هن من توصله إلى ما عجز عنه الأوائل من جمع النغم كلها في صوت واحد تتبعه هو وأتى به على ما فصله فيها وطلبه منها .

الصفحة 223