كتاب نهاية الأرب في فنون الأدب ـ العلمية (اسم الجزء: 4)

"""""" صفحة رقم 225 """"""
لرجل واحد . مغن متقدم من فحول المغنين وأكابرهم . وهو أول من وضع الغناء منهم ، وأول من غنى الغناء العربي بمكة ؛ وذلك أنه مر بالفرس وهم يبنون المسجد الحرام في أيام عبد الله بن الزبير ، فسمع غناءهم بالفارسية فقلبه في شعر عربي ، ثم رحل إلى الشام فأخذ ألحان الروم والبربطية والأسطوخوسية ، وأنقلب إلى فارس فأخذ غناءً كثيرا وتعلم الضرب ، ثم قدم إلى الحجاز وقد أخذ محاسن تلك النغم وألقى منها ما أستقبحه من النبرات والنغم ؛ وكان أول من فعل ذلك ، وتبعه الناس بعد ؛ وعلم أبن سريج ، وعلم أبن سريج الغريض . قالوا : وكان في صباه فطنا ذكياً ، وكان مولاه معجبا به ، فكان يقول : ليكونن لهذا الغلام شأن ، وما يمنعني من عتقه إلا حسن فراستي فيه ، ولئن عشت لأتعرفن ذلك ، وإن مت قبله فهو حر . فسمعه مولاه يوماً يتغنى بشعر أبن الرقاع يقول :
ألمم على طللٍ عفا متقادم . . . بين الذّؤيب وبين غيب النّاعم
لولا الحياء وأنّ رأسي قد عسا . . . فيه المشيب لزرت أمّ القاسم
فدعاه مولاه فقال : أعد يا بني ؛ فأعاده فإذا هو أحسن مما أبتدأ به ، وقال : إن هذا لبعض ما كنت أقول . ثم قال له : أنى لك هذا ؟ قال : سمعت هذه الأعاجم تتغنى بالفارسية فقلبتها في هذا الشعر . قال : فأنت حرٌ لوجه الله . فلزم مولاه وكثر أدبه وأتسع في غنائه وشهر بمكة وأعجبوا به . فدفع إليه مولاه عبيد بن سريج وقال : يا بني علمه وأجتهد فيه . وكان أبن سريج أحسن الناس صوتا ، فتعلم منه ثم برز عليه . وقد قيل : إنه إنما سمع الغناء من الفرس لما أمر معاوية ببناء دوره بمكة التي يقال لها الرقط ، وكان قد حمل إليها بنائين من الفرس الذين كانوا بالعراق فكانوا يبنونها ، وكان سعيد بن مسجح يأتيهم فيسمع غناءهم على بنائهم ؛ فما أستحسن من ألحانهم أخذه ونقله إلى الشعر العربي ، ثم صاغر على نحو ذلك . وكان من قديم غنائه الذي صنعه على تلك الألحان شعر الأحوص ، وهو :
أسلام إنك قد ملكت فأسجحي . . . قد يملك الحرّ الكريم فيسجح

الصفحة 225