كتاب نهاية الأرب في فنون الأدب ـ العلمية (اسم الجزء: 4)

"""""" صفحة رقم 234 """"""
الناس من تلويني ثيابي ولعبي بجرادتي فقال : تغنيهم أغانيك الخبيثة . فقال له أبن سريج : بحق من تبعته من أصحاب رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وبحق رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) عليك إلا سمعت مني بيتا من الشعر ، فإن سمعت منكراً أمرتني بالإمساك عما أنا عليه ، وأنا أقسم بالله وبحق هذه البنية إن أمرتني بعد أستماعك مني بالإمساك عما أنا عليه لأفعلن . فأطمع ذلك عطاءً في أبن سريج وقال له : قل . فأندفع يغني بشعر جرير :
إنّ الذين غدوا بلبّك غادروا . . . وشلاً بعينك لا يزال معينا
غيّضن من عبراتهنّ وقلن لي . . . ماذا لقيت من الهوى ولقينا
قال : فلما سمعه عطاء أضطرب أضطرابا شديدا وداخلته أريحيةٌ ، فحلف ألا يكلم أحداً بقية يومه إلا بهذا الشعر ، وصار إلى مكانه من المسجد الحرام ، فكان كل من يأتيه يسأل عن حلال أو حرام أو خبر لا يجيبه إلا بأن يضرب إحدى يديه على الأخرى وينشد هذا الشعر حتى صلى المغرب ، ولم يعاود أبن سريج بعدها ولا تعرض له .
وحكى عنه أيضا أن عمر بن أبي ربيعة حج في عام من الأعوام ومعه أبن سريج ، فلما رموا الجمرات تقدما الحاج إلى كثيب على خمسة أميال من مكة مشرفٍ على طريق المدينة وطريق الشام والعراق ، وهو كثيب شامخ مفرد عن الكثبان ، فصارا إليه فأكلا وشربا . فلما أنتشيا أخذ أبن سريج الدف فنقره وجعل يتغنى وهم ينظرون إلى الحاج . فلما أمسيا رفع أبن سريج صوته وتغنى بشعر لعمر بن أبي ربيعة ، فسمعه الركبان ، فجعلوا يصيحون به : يا صاحب الصوت ، أما تتقي الله قد حبست الناس عن مناكسهم ، فيسكت قليلا حتى إذا مضوا رفع صوته فيقف آخرون ؛ إلى أن وقف عليه في الليل رجل حسن الهيئة على فرس عتيق حتى وقف بأصل الكثيب ، ثم نادى : يا صاحب الصوت ، أيسهل عليك أن تردد شيئا مما سمعته منك ؟ قال : نعم ونعمة عينٍ ، فأيها تريد ؟ فأقترح صوتا فغناه . ثم قال له أبن سريج : ازدد إن شئت ؛ فأقترح صوتاً آخر فغناه ، فقال له : والثالث ولا أستزيدك ، فغناه الثالث . وقال له أبن سريج :

الصفحة 234