كتاب نهاية الأرب في فنون الأدب ـ العلمية (اسم الجزء: 4)
"""""" صفحة رقم 249 """"""
وقال بعضهم : كان الغريض أشجى غناءً ، وأبن سريج أحكم صنعةً . وحكى أبو الفرج الأصفهاني بسند رفعه إلى أيوب بن عباية عن مولى لآل الغريض قال : حدثني بعض مولياتي وقد ذكرن الغريض فترحمن عليه وقلن : جاءنا يوما فحدثنا بحديث أنكرناه عليه ثم عرفناه بعد ذلك حقيقةً . قالت : وكان أبن سريج بجوارنا فدفعناه إليه ولقن الغناء ، وكان من أحسن الناس صوتاً ، ففتن أهل مكة بحسن وجهه مع حسن صوته . فلما رأى ذلك أبن سريج نحاه عنه . فكان بعض مولياته تعلمه النياحة فبرز فيها . فجاءني يوما فقال : نهتني الجن أن أنوح وأسمعتني صوتا عجيبا ، فقد أبتنيت عليه لحناً فأسمعيه مني ، فأندفع فغنى بصوتٍ عجيبٍ في شعرٍ لمرار الأسدي :
حلفت لها بالله ما بين ذي الغضا . . . وهضب القنان من عوانٍ ومن بكر
أحبّ إلينا منك دلاّ وما نرى . . . به عند ليلى من ثواب ولا أجر
قالت : فكذبناه وقلنا : شيءٌ فكر فيه وأخرجه على هذا الجنس . فكان في كل يوم يأتينا فيقول : سمعت البارحة صوتاً من الجن بترجيع وتقطيع ، فقد بنيت عليه صوت كذا وكذا بشعر فلان ، فلم يزل على ذلك ونحن ننكر عليه . فإنا لكذلك ليلةً وقد أجتمع جماعةٌ من نساء أهل مكة في جمع لنا سمرنا فيه ليلتنا والغريض يغنينا بشعر عمر بن أبي ربيعة حيث يقول :
أمن آل زينب جدّ البكور . . . نعم فلأيّ هواها تصير
إذ سمعنا في بعض الليل عزيفاً عجيبا وأصواتا ذعرتنا وأفزعتنا . فقال لنا الغريض : إن في هذه الأصوات صوتاً إذا نمت سمعته وأصبح أبني عليه غنائي ؛ فأصغينا إليه فإذا نغمته نغمة الغريض بعينها ، فصدقناه تلك الليلة .
وكانت وفاة الغريض باليمن في خلافة سليمان بن عبد الملك أو عمر بن عبد العزيز ، وكان قد هرب من نافع بن علقمة لما ولي مكة من مكة إلى اليمن وأستوطنها ومات بها .