كتاب نهاية الأرب في فنون الأدب ـ العلمية (اسم الجزء: 4)

"""""" صفحة رقم 268 """"""
فغنى في هذا الشعر لحنين ، أحدهما نحا فيه نحو المرأة في نوحها ورققه وأصلحه ، والآخر نحا فيه نحو معبد في غنائه . ثم دخل على حمزة فقال له : أيها الأمير ، إني قد صنعت غناءً في شعر سمعت أهل المدينة ينشدونه وقد أعجبني ، فإن أذن الأمير غنيته . قال : هات ؛ فغنى اللحن الذي نحا فيه نحو معبدٍ ؛ فطرب حمزة وقال : أحسنت يا غلام ، هذا الغناء غناء معبدٍ بطريقته . قال : لا تعجل أيها الأمير وأسمع مني شيئاً ليس من غناء معبد ولا طريقته ؛ فغناء اللحن الذي تشبه فيه بنوح المرأة . فطرب حمزة حتى ألقي عليه حلةً كانت عليه قيمتها مائتا دينار . ودخل معبدٌ فرأى حلة حمزة على مالكٍ فأنكرها . وعلم حمزة بذلك فأخبر معبداً بالسبب ، وأمر مالكا فغناه الصوتين . فغضب معبد لما سمع الصوت الأول وقال : قد كرهت أن آخذ هذا الغلام فيتعلم غنائي فيدعيه لنفسه . فقال حمزة : لا تعجل وأسمع غناءً صنعه ليس من شأنك ولا غنائك ، وأمره أن يغني الصوت الآخر فغناه ، فأطرق معبدٌ . فقال له حمزة : والله لو أنفرد بهذا لضاهاك ثم تزايد على الأيام ، وكلما كبر وزاد شخت أنت وأنتقصت ، فلأن يكون منسوباً إليك أجمل . فقال له معبدٌ وهو منكسر : صدق الأمير . فأمر حمزة لمعبدٍ بخلعة من ثيابه وجائزة حتى سكن وطابت نفسه . فقام مالكٌ على رجليه وقبل رأس معبد وقال له : يا أبا عباد ، أساءك لما سمعت مني ؟ والله لا أغني لنفسي شيئا أبداً ما دمت حياً ؟ وإن غلبتني نفسي فغنيت في شعر أستحسنته لا نسبته إلا إليك ، فطب نفسا وأرض عني . فقال له معبد : أتفعل هذا وتفي به ؟ قال : إي والله وأزيد . فكان مالك إذا غنى صوتاً وسئل عنه قال : هذا لمعبد ، ما غنيت لنفسي شيئاً قط ، وإنما آخذ غناء معبد فأنقله إلى الأشعار وأحسنه وأزيد فيه وأنقص منه . وحضر مالكٌ بن أبي السمح عند يزيد بن عبد الملك مع معبد وأبن عائشة فغنوه ، فأمر لكل واحد منهم بألف دينار .
وحكى عن أبن الكلبي قال : قال الوليد بن يزيد لمعبد : قد آذتني ولولتك هذه ، وقال لأبن عائشة : قد آذاني استهلالك هذا ، فاطلبا لي رجلا يكون مذهبه متوسطا بين مذهبيكما . فقالا له : مالك بن أبي السمح ؛ فكتب في إشخاصه إليه وسائر من بالحجاز من المغنين . فلما قدم مالك على الوليد بن يزيد فيمن معه نزل على الغمر بن يزيد ، فأدخله على الوليد فغناه فلم يعجبه . فلما أنصرف قال له الغمر : إن أمير المؤمنين لم يعجبه شيءٌ من غنائك ، فقال له :

الصفحة 268