كتاب نهاية الأرب في فنون الأدب ـ العلمية (اسم الجزء: 4)

"""""" صفحة رقم 287 """"""
فأنا أمضي إلى الفضل فأستوهبه منه ، فإذا كان عندي فهو عندك . فقال له : شأنك . فمضى مسرور إلى الفضل وأستوهبه منه ، فوهبه له . وقيل : بل إبراهيم هو الذي أهداه للرشيد ؛ فأمره الرشيد بتعليمه فعلمه حتى بلغ ما بلغه . قال : وكان مخارقٌ يقف بين يدي الرشيد مع الغلمان لا يجلس ويغني وهو واقف . فغنى ابن جامع ذات يوم بين يدي الرشيد :
كأنّ نيراننا في جنب قلعتهم . . . مصبّغات على أرسان قصّار
هوت هرقلة لمّا أن رأت عجباً . . . جواثما ترتمي بالنّفط والنّار
فطرب الرشيد وأستعاده مراراً ؛ وهو شعر مدح به الرشيد في فتح هرقلة . فأقبل الرشيد على أبن جامع دون غيره . فغمز مخارقٌ إبراهيم بعينه وتقدمه إلى الخلاء ، فلما جاء قال له : مالي أراك منكسراً ؟ فقال له : أما ترى إقبال أمير المؤمنين على أبن جامع بسبب هذا الصوت فقال مخارقٌ : قد والله أخذته . فقال : ويحك إنه الرشيد ، وأبن جامعٍ من تعلم ، ولا يمكن معارضته إلا بما يزيد على غنائه وإلا فهو الموت فقال : دعني وخلاك ذمٌ ، وعرفه أني أغني به ، فإن أحسنت فإليك ينسب ، وإن أسأت فإلي يعود . فقال إبراهيم للرشيد : يا أمير المؤمنين ، أراك متعجباً من هذا الصوت بغير ما يستحقه وأكثر مما يستوجبه فقال : لقد أحسن فيه أبن جامع ما شاء . قال : أو لأبن جامع هو ؟ قال : نعم ، كذا ذكر . قال : فإن عبدك مخارقاً يغنيه . فنظر إلى مخارق ؛ فقال : نعم يا أمير المؤمنين . قال : هاته ؛ فغناه وتحفظ فيه فأتى بالعجائب ، وطرب الرشيد حتى كاد يطير ؛ ثم أقبل على أبن جامع فقال : ويلك ما هذا ؟ فابتدأ يحلف بالطلاق وكل محرجة أنه لم يسمع ذلك الصوت قط من غيره وأنه صنعه وأنها حيلةٌ جرت عليه . فأقبل على إبراهيم وقال : أصدقني بحياتي ؛ فصدقه عن قصة مخارق . فقال لمخارق : اجلس إذاً مع أصحابك ، فقد تجاوزت مرتبة من يقوم . وأعتقه ووصله بثلاثة آلاف دينار وأقطعه ضيعةً ومنزلا .

الصفحة 287