كتاب نهاية الأرب في فنون الأدب ـ العلمية (اسم الجزء: 4)

"""""" صفحة رقم 289 """"""
علينا ؛ فاندفع مخارق يغني ، فأجتمع علينا الغلمان ، وخرج الواثق فصاح : يا غلام ، فلم يجبه أحد ، ومشى في المجلس إلى أن توسط الدار ؛ فلما رأيته بادرت إليه ؛ فقال لي : ويلك هل حدث في داري شيءٌ ؟ فقلت : لا يا سيدي . قال : فما بالي أصيح فلا أجاب ؟ فقلت : مخارق يغنى والغلمان قد أجتمعوا إليه فليس فيهم فضلٌ لسماع غير ما يسمعونه . فقال : عذرٌ والله لهم يا أبن حمدون وأي عذر ثم جلس وجلسنا بين يديه إلى السحر . وقد روى نحو هذه الحكاية في أمر الغلمان مع مخارق عند المعتصم . وقال محمد بن عبد الملك الزيات : قال لي الواثق : ما غناني مخارق قط إلا قدرت أنه من قلبي خلق . وكان يقول : أتريدون أن تنظروا فضل مخارق على جميع أصحابه ؟ انظروا إلى هؤلاء الغلمان الذين يقفون في السماط ، فكانوا يتفقدونهم وهم وقوفٌ فكلهم يسمع الغناء من المغنين جميعا وهو واقفٌ مكانه ضابطٌ لنفسه ، فإذا تغنى مخارق خرجوا عن صورهم فتحركت أرجلهم ومناكبهم وبانت أسباب الطرب فيهم ، وأزدحموا على الحبل الذي يقفون من ورائه .
وحكى أنه خرج مرة إلى باب الكناسة بمدينة السلام والناس يرحلون إلى مكة ؛ فنظر إلى كثرتهم وأزدحامهم ، فقال لأصحابه الذين معه : قد جاء في الخبر أن أبن سريج كان يغني في أيام الحج والناس يمشون فيستوقفون بغنائه ، وسأستوقف لكم هؤلاء الناس وأستلهيهم جميعاً لتعلموا أنه لم يكن ليفضلني إلا بصنعته دون صوته ؛ ثم اندفع يؤذن ، فأستوقف أولئك الخلق واستلهاهم ، حتى جعلت المحامل يغشي بعضها بعضاً .
قالوا : وجاء أبو العتاهية إلى باب مخارق وطرقه فخرج إليه ؛ فقال له : يا حسان هذا الإقليم ، يا حكيم أرض بابل ، أصبب في أذني شيئا يفرح به قلبي وتتنعم به نفسي وكان في جماعة منهم محمد بن سعيد اليزيدي فقال : انزلوا ، فنزلوا ، فغناهم . فقال محمد بن سعيد : فكدت أسعى على وجهي طرباً . قال : وجعل أبو العتاهية يبكي ، ثم قال : يا دواء المجانين ، لقد رققت حتى كدت أن أحسوك ، فلو كان الغناء طعاماً لكان غناؤك أدما ، ولو كان شراباً لكان ماء الحياة .

الصفحة 289