كتاب نهاية الأرب في فنون الأدب ـ العلمية (اسم الجزء: 4)
"""""" صفحة رقم 37 """"""
هات قلنسوتي ، فأخرج قلنسوة طويلة خلقاً قد علاها الوسخ والدهن وتخرقت تساوي نصف درهم . قال : قوم ، فقال : قلنسوة الأمير تعلو هامته ، ويصلي فيها الصلوات الخمس ، ويجلس فيها للحكم ثلاثون ديناراً . قال : أثبت ، فأثبت ذلك ، ووضعت القلنسوة بيد يدي الأعرابي فأربد وجهه وجحظت عيناه وهم بالوثوب ، ثم تماسك وهو مقلقل . ثم قال لأشعب : هات ما عندك ، فأخرج خفين خلقين قد نقبا وتقشرا وتفتتا ، فقال : قوم ، فقال : خفا الأمير يطأ بهما الروضة ، ويعلو بهما منبر النبي صلى لله عليه وسلم أربعون ديناراً ، فقال : ضعهما بين يديه . ثم قال للأعرابي : أضمم إليك متاعك ، وقال لبعض الأعوان : امض مع الأعرابي واقبض ما بقي لنا عليه من ثمن المتاع ، وهو عشرون ديناراً . فوثب الأعرابي فأخذ القماش فضرب به وجوه القوم لا يألو في شدة الرمي ، ثم قال له : أتدري في أي شيء أموت ؟ قال : لا ، قال : لم أدرك أباك عثمان فأشترك والله في دمه إذ ولد مثلك ثم نهض كالمجنون حتى أخذ برأس بعيره ، وضحك أبان حتى سقط ، وضحك من كان معه . فكان الأعرابي بعد ذلك إذا لقي أشعب يقول له : هلم إلي يا ابن الخبيثة ، حتى أكافئك على تقويمك المتاع يوم قومت ، فيهرب منه أشعب .
وقال المدائني : حدثني شيخ من أهل المدينة قال : كانت امرأة شديدة العين ، لا تنظر إلى شيء فتستحسنه إلا عانته ، فدخلت على أشعب وهو في الموت ، وهو يقول لابنته : يا بنية ، إذا أنا مت فلا تندبيني ، والناس يسمعونك ، وتقولين : وا أبتاه ، أندبك للصوم والصلاة ، للفقه والقرآن ، فيكذب الناس ويلعنونني . ثم التفت فرأى المرأة ، فغطى وجهه بكمه وقال لها : يا فلانة ، بالله إن كنت استحسنت شيئاً مما أنا فيه ، فصلي على النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ولا تهلكيني ، فغضبت المرأة وقالت : سخنت عينك وفي أي شيء أنت مما يستحسن ؟ أنت في آخر رمق قال : قد علمت ، ولكن قلت لئلا تكوني قد استحسنت خفة الموت علي وسهلة النزع ، فيشتد ما أنا فيه . فخرجت من عنده وهي تسبه ، وضحك من كان حوله من كلامه ومات .