كتاب نهاية الأرب في فنون الأدب ـ العلمية (اسم الجزء: 4)
"""""" صفحة رقم 47 """"""
فعل بي هذا ابن الخبيثة ما لم يفعله ولد بأبيه ، ولا يرضيني إلا أن تقتله . قال : ويحك وما فعل بك ؟ فأخبره الخبر ، فضحك حتى استلقى ثم جلس . فقال له أبو دلامة : أعجبك فعله فتضحك منه ؟ فقال : علي بالسيف والنطع . فقال له دلامة : قد سمعت قوله يا أمير المؤمنين ، فاسمع حجتي . قال : هات قال : هذا الشيخ أصفق الناس وجهاً ، هو يفعل بأمي منذ أربعين سنة ما غضبت ، وفعلت أنا بجاريته مرة واحدة غضب وصنع بي ما ترى . فضحك المهدي أشد من ضحكه الأول ، ثم قال : دعها له يا أبا دلامة ، وأنا أعطيك خيراً منها ، قال : على أن تخبأها لي بين السماء والأرض وإلا فعل بها والله كما فعل بهذه ، فتقدم إلى دلامة ألا يعاود مثل فعله ، وحلف أنه إن عاود قتله ، ثم وهب له جارية . قال عبد الله بن صالح رحمه الله جاء ابن أبي دلامة يوماً إلى أبيه وهو في محفل من جيرانه وعشيرته فجلس بين يديه ، ثم أقبل على الجماعة فقال لهم : إن شيخي كما تؤون قد كبر سنه ورق جلده ودق عظمه ، وبنا إلى حياته حاجة شديدة ، فلا أزال أشير عليه بالشيء يمسك رمقه ويبقى قوته فيخالفني فيه ، وإني أسألكم أن تسألوه قضاء حاجة لي أذكرها بحضرتكم فيها صلاح جسمه وبقاء حياته ، فأسعفوني بمسألته معي . فقالوا : نفعل حباً وكرامة ، ثم أقبلوا على أبي دلامة بألسنتهم فتناولوه بالعتاب حتى رضي ابنه وهو ساكت ، قال : قولوا للخبيث فليقل ما يريد ، فستعلمون أنه لم يأت إلا ببلية . فقالوا له : قل ، فقال : إن أبي إنما قتله كثرة الجماع ، فتعاونوني حتى أخصيه ، فلن يقطعه عن ذلك غير الخصاء فيكون أصح لجسمه وأطول لعمره . فعجبوا بما أتى به وضحكوا . ثم قالوا لأبي دلامة : قد سمعت فأجب . قال : قد سمعتم أنتم فعرفتكم أنه لم يأت بخير . قالوا : فما عندك في هذا ؟ قال : قد جعلت أمه حكماً فيما بيني وبينه ، فقوموا بنا إليها . فقاموا بأجمعهم ودخلوا إليها ، وقص أبو دلامة القصة عليها وقال : قد حكمتك . فأقبلت على الجماعة فقالت : إن ابني هذا أبقاه الله قد نصح أباه ولم يأل جهداً ، وما أنا إلى بقاء أبيه أحوج مني إلى بقائه ، وهذا أمر لم يقع به تجربة منا ولا جرى بمثله عادة لنا ، وما أشك في معرفته بذلك ، فليبدأ بنفسه فليخصها ، فإذا عوفي ورأينا ذلك قد أثر عليه أثراً محموداً استعمله أبوه . فضحك أبوه والقوم وانصرفوا يعجبون من خبثهم جميعاً .