كتاب نهاية الأرب في فنون الأدب ـ العلمية (اسم الجزء: 4)
"""""" صفحة رقم 49 """"""
علي وعلى الكبار من ولدي ، وفي أصاغرهم من أحتاج إلي ختانه ، وفيهم صغار أحتاج أن أتخذ لهم خدماً ، فإن رأى أمير المؤمنين أن يحسن معونتي على ذلك فعل . فأمر له بمثل ما أمر به لابن جامع . وجعل كل واحد منهم يقول في الثناء ما يحضره ويسأل حاجته على قدر جائزته ، وأبو صدقة ينظر إلى الأموال تفرق يميناً وشمالاً ، فوثب قائماً ورمى بالدنانير من كمه وقال للرشيد : أقلني أقال الله عثرتك . فقال الرشيد : لا أفعل . فجعل يستحلفه ويضطرب ويلح والرشيد يضحك ويقول : مالي إلى ذلك سبيل ، الشرط أملك . فلما عيل صبره أخذ الدنانير ورمى بها بين يدي الرشيد وقال : هاكها قد رددتها عليك وزدتك أم صدقة فطلقها واحدة إن شئت وإن شئت ألفاً . وإن لم تلحقني بجوائز القوم فألحقني بجائزة هذا البارد عمرو الغزال - وكانت جائزته ثلاثة آلاف دينار - فضحك حتى استلقى ثم رد عليه الخمسمائة الدينار وأمر له بألف أخرى معها ، وكان ذلك أكثر ما أخذه منذ خدمه إلى أن مات ، رحمة الله عليهم .
وروى أبو الفرج عن أبي إسحاق قال : مطرنا ونحن مع الرشيد بالرقة مع الفجر فاتصل إلى غد ذلك اليوم ، وعرفنا خبر الرشيد أنه مقيم عند أم ولده المسماة سحر ، فتشاغلنا عنه في منازلنا . فلما كان من غد جاءنا رسول الرشيد فحضرنا جميعاً ، وأقبل يسأل كل واحد منا عن يومه الماضي وما صنع فيه ، فيخبره إلى أن انتهى إلى جعفر بن يحيى ، فسأله عن خبره فقال له : كان عندي أبو زكار الأعمى وأبو صدقة ، وكان أبو زكار كلما غنى صوتاً ، لم يفرغ منه حتى يأخذه أبو صدقة ، فإذا انتهى الدور إليه أعاده وحكى أبا زكار فيه وحركاته وشمائله ، ويفطن أبو زكار لذلك فيجن ويموت غيظاً ويشتم أبا صدقة كل الشتم حتى يضجر ، وهو لا يجيبه ولا يدع العبث به وأنا أضحك من ذلك ، إلى أن توسطنا الشرب وسمنا من عبثه به ، فقلت له : دع هذا عنك وغن غناءك . فغنى رملاً ذكر أنه من صنعته ، فطربت له والله يا أمير المؤمنين طرباً ما أذكر أني طربت مثله منذ حين وهو :
فتنتنى بفاحم اللون جعد . . . وبثغر كأنه نظم در
وبوجه كأنه طلعة البد . . . روعين في طرفها نفث سحر