كتاب نهاية الأرب في فنون الأدب ـ العلمية (اسم الجزء: 4)

"""""" صفحة رقم 50 """"""
فقلت له : أحسنت والله يا أبا صدقة فلم أسكت من هذه الكلمة حتى قال : يا سيدي إني قد بنيت داراً أنفقت عليها جميع مالي وما أعددت لها فرشاً فأفرشها لي . فتغافلت عنه . وعاود الغناء فتعمدت أن قلت : أحسنت ، فسألني فتغافلت ، فقال : يا سيدي ، هذا التغافل متى حدث لك ؟ سألتك بالله وبحق أبيك عليك إلا أجبتني عن كلامي ولو بشتم . فأقبلت عليه وقلت له : أنت والله بغيض ، اسكت يا بغيض ، واكفف عن هذه المسألة الملحة . فوثب من بين يدي ، فقلت : إنه قد خرج لحاجة ، فإذا هو قد نزع ثيابه وتجرد منها خوفا ًمن أن تبتل ووقف تحت السماء لا يواريه شيء والمطر يأخذه ورفع رأسه وقال : يا رب أنت تعلم أني مله ولست نائحاً ، وعبدك الذي قد رفعته وأحوجتني إلى خدمته يقول لي : أحسنت لا يقول لي : أسأت ، وأنا مذ جلست أقول له : بنيت ولا أقول له : هدمت ، فيحلف بك جرأة عليك أني بغيض ، فاحكم بيني وبينه فأنت خير الحاكمين . فغلبني الضحك وأمرت به فتنحى ، وجهدت به أن يغني فامتنع ، حتى حلفت له بحياتك أني أفرش له داره يا أمير المؤمنين ، وخدعته فلم أسم له بما أفرشها . فقال له الرشيد : طيب والله الآن تم لنا به اللهو ، أدعه فإنه إذا رآك سوف يتنجزك الفرش لأنك حلفت له بحياتي فهو يقتضيك ذاك بحضرتي ليكون أوفق له ، فقل له : أنا أفرشها لك بالبواري وحاكمه إلي . ثم دعا به فحضر فلما استقر في المجلس قال لجعفر : الفرش الذي حلفت بحياة أمير المؤمنين أنك تفرش به داري ، تقدم به . فقال له جعفر : اختر ، إن شئت فرشتها لك بالبواري وإن شئت فبالبردي من الحصر ، فصاح واضطرب . فقال له الرشيد : وكيف كانت القصة ؟ فأخبره ، فقال له : أخطأت يا أبا صدقة إذ لم تسم النوع ولا حددت القيمة ، فإذا فرشها لك بالبردي أو بما دون ذلك فقد بر في يمينه ، وإنما خدعك ولم تفطن أنت ولا توثقت وضيعت حقك . فسكت ثم قال : نوفر أيضاً البردي والبواري عليه أعزه الله . وغنى المغنون حتى انتهى الدور إليه ، فأخذ يغني غناء الملاحين والبنائين والسقائين وما يجري مجراه من الغناء . فقال له الرشيد : أي شيء هذا الغناء ؟ قال : من فرش داره بالبواري والبردي فهذا الغناء كثير منه ، وكثير أيضاً لمن هذه صلته . فضحك الرشيد وطرب وصفق وأمر له بألف دينار منماله ، وقال له : افرش دارك بهذه . فقال : وحياتك يا أمير المؤمنين لا آخذها أو تحكم لي على جعفر بما وعدني وإلا مت

الصفحة 50