كتاب الحيوان (اسم الجزء: 3-4)

الحيّات. ومن جعل للحيّات مشيا من الشعراء، أكثر من أن نقف عليهم. ولو كانوا لا يسمّون انسيابها وانسياحها مشيا وسعيا، لكان ذلك مما يجوز على التشبيه والبدل، وأن قام الشيء مقام الشيء أو مقام صاحبه؛ فمن عادة العرب أن تشبّه به في حالات كثيرة. وقال الله تعالى: هذا نُزُلُهُمْ يَوْمَ الدِّينِ
[1] والعذاب لا يكون نزلا، ولكنّه أجراه مجرى كلامهم، كقول حاتم حين أمروه بفصد بعير، وطعنه في سنامه، وقال:
«هذا فصده!» [2] .
وقال الآخر [3] : [من الرجز]
فقلت يا عمرو اطعمنّي تمرا ... فكان تمري كهرة وزبرا [4]
وذمّ بعضهم الفأر، وذكر سوء أثرها في بيته، فقال [5] : [من الرجز]
يا عجّل الرّحمن بالعقاب ... لعامرات البيت بالخراب
يقول: هذا هو عمارتها. كما يقول الرّجل، «ما نرى من خيرك ورفدك إلّا ما يبلغنا من حطبك علينا، وفتّك في أعضادنا!» [6] .
وقال النّابغة في شبيه بهذا، وليس به [7] : [من الطويل]
ولا عيب فيهم غير أنّ سيوفهم ... بهنّ فلول من قراع الكتائب
- ووجه آخر: أنّ الأعراب تزعم- وكذلك قال ناس من الحوّائين والرّقائين- إنّ للحيّة حزوزا في بطنه، فإذا مشى قامت حزوزه، وإذا ترك المشي تراجعت إلى مكانها، وعادت تلك المواضع ملسا. ولم توجد بعين ولا لمس، ولا يبلغها إلّا كلّ حوّاء دقيق الحسّ.
وليس ذلك بأعجب من شقشقة الجمل العربيّ؛ فإنّه يظهرها كالدّلو، فإذا هو أعادها إلى لهاته تراجع ذلك الجلد إلى موضعه، فلا يقدر أحد عليه بلمس ولا عين.
__________
[1] 56/الواقعة: 56.
[2] في مجمع الأمثال 2/394 (هكذا فصدي) والفصد: شق العرق لاستخراج دمه.
[3] الرجز بلا نسبة في المخصص 2/134، والبيان 1/153، والأضداد 178.
[4] الكهرة: الانتهار. الزبر: الزجر.
[5] الرجز بلا نسبة في ديوان المعاني 2/151، والبيان 1/152، وربيع الأبرار 5/470.
[6] البيان 1/152- 153.
[7] ديوان النابغة الذبياني 44، والخزانة 3/327، 331، 334، وشرح شواهد المغني 349، ومعاهد التنصيص 3/107، واللسان (قرع، فلل) .

الصفحة 394