كتاب نهاية الأرب في فنون الأدب ـ العلمية (اسم الجزء: 5)

"""""" صفحة رقم 156 """"""
كلهن أمان ، وقد اتخذ من إقدامه عليها خير حبائل ومن مفاجأته لها أمد عنان ، وفي خدمته جنودٌ لا تستبعد مفازة ، وكم راحت وغدت وفي نفوسها للأعداء حزازة ، فامتطوا بخيولهم من جبال لبنان تيجاناً لها صاغتها الثلوج ، ومعارج لا ترافق بها غير الرياح الهوج ، وانحطت تلك الجيوش من تلك الجنادل ، انحطاط الأجدال ، واندفعوا في تلك الأوعار اندفاع الأوعال ، ولم يحفل أحدٌ منهم بسربٍ لاصقٍ ولا بجبلٍ شاهقٍ فقال : هذا منخفضٌ أو عال ، وشرعوا في التحصيل لما يوهي ذلك التحصين ، وابتناء كل سورٍ أمام أسوارها من التدبير الحسن والرأي الرصين ، فما لبثوا إلا مقدار ما قيل لهم : دونكم والاحتطاب ، ونقل المجانيق على الخيل وعلى الرقاب ، حتى جروها بأسرع من جر النفس ، وأجروها على الأرض سفائن وكم قالوا : السفينة لا تجري على يبس . وفي الحال نقلت إليها فرأوا من متوقلها من يمشي بها على رجلين ومنهم من يمشي على أربع ، ووجهت سهامها وجوهها إلى منافذها فما شوهدت منها عينٌ إلا وكان قدامها منها إصبع ، وألقيت العداوة بين الحجارة من المجانيق وبين الحجارة من الأسوار ، فكم نقبت ونقبت من فلذة كبدها عن أسرار ، وأوقدت نيران المكايد ثم فكم حولها من صافنٍ ومن صافر ، وكم رمتهم بشررٍ كالقصر فوقع الحافر كما يقال على الحافر . وما برحت سوق أهل الإيمان في نفاقٍ على أهل النفاق ، وأكابرهم تساق أرواحهم الخبيثة إلى السياق . وكان أهل عكاء قد أنجدوهم من البحر بكل بر ، ورموا الإسلام بكل شررٍ وكل شر ، فكان السهم الذي يخرج منها لا يخرج إلا مقترناً بسهام . وشرفات ذلك الثغر كالثنايا ولكنها لكثرة من بها لا تفتر عن ابتسام ، وما زالت جنود الإسلام كذاك ، ومولانا السلطان لا ترى جماعةٌ مقدمةٌ ولا متقدمةٌ إلا وهو يرى بين أولئك . وأستمر ذلك من مستهل شهر ربيعٍ الأول غلى يوم الثلاثاء رابع شهر ربيعٍ الآخر ، فزحف عليها في بكرة ذلك النهار زحفاً يقتحم كل لهضبةٍ ووهدة ، وكل

الصفحة 156