كتاب نهاية الأرب في فنون الأدب ـ العلمية (اسم الجزء: 5)

"""""" صفحة رقم 169 """"""
له النجوم فإن عزمه كان من شهبها ، وأظلمت في عيني الدنيا الظالمة ، وتجرعت منها كأساً لا تسيغها النفس كاظمة ، وتقسمت الأيام فريقين في مودتي وعداوتي ، فآهاً على السفالة ولا مرحباً بالقادمة ، وأصبحت أخوض الماء وأحشائي تتقطع غليلاً ، وارى الناس كثيراً بعيني وبقلبي قليلاً .
وما الناس في عيني إلا حجارةً . . . لبينك والأعراس إلا مآتم
فقد استوحشت الدنيا لفقده ، وارتابت بنفسها من بعده ، وعلمت حلاوة قربه بمرارة بعده ، وانصرف ذوو الألباب عن بابه ، واجتنبت الآمال مغنى جنابه ، وبكت الرياض على آثار سحابه .
فإن يمس وحشاً بابه فلربما . . . تناطح أفواجاً عليه المواكب
ومن إنشائه رحمه الله تعالى : ما شككت - أطال الله بقائك - حين ورد النعي بالمصائب التي قصمت الظهور بمكروهها ، وحسرت فيها الحسرات عن وجوهها ، أن السماء على الأرض قد انطبقت ، وأن الأيام ما أبقت والسعادة قد أبقت ، والحياة لم يبق في طولها طائل ، والصبر بهجير اللوعة ظلٌ منسوخٌ زائل ، وشمس الفضائل قد غربت وكيف بطلوعها ، ونفس المكارم قد نزعت من بين ضلوعها ، وغاب الإسلام قد غاب منه أي ليث ، ورياض الآمال قد أقلع عن سقياها أي غيثٍ . فإنا لله وإنا إليه راجعون ، رضاً بحكمه ، وتجلداً علة ما رمى به الحادث من سهمه ، وطباً للقلوب على مضض البلاء وكلمه ، وفراراً من الجمع بين مصيبة الفاقد وإثمه . وسقى الله ذلك الضريح ما شاء أن يسقيه من سحابٍ كصوب يديه ، ورحمه رحمً تحف بجانبيه . وآهاً للماء العذب كيف ارتشفته النوازل وأبقت الملح ، ثم آهاً للصباح الطلق كيف اغتالته الأصائل وأطلقت الجنح ، ووا أسفا لتلك الذخيرة التي فذلكت بها الأيام ذخائري ،

الصفحة 169