كتاب نهاية الأرب في فنون الأدب ـ العلمية (اسم الجزء: 5)
"""""" صفحة رقم 17 """"""
فقلت : هاتهما فأنشدني :
والله يا طرفي الجاني على بدني . . . لتطفئن بدمعي لوعة الحزن
أو لأبوحن حتى يحجبوا سكني . . . فلا أراه وقد أدرجت في كفني
قال : فصنعت فيه لحناً ثم غنيته إياه ، وأغمي عليه حتى ظننته قد مات ، ثم أفاق فقال أعد ، فديتك فناشدته الله في نفسه وقلت : أخشى أن تموت ، فقال : هيهات أنا أشقى من ذلك . وما زال يخضع لي ويتضرع حتى أعدته ، فصعق صعقةً أشد من الأولى حتى ظننت أن نفسه قد فاضت . فلما أفاق رددت عليه الدنانير فوضعتها بين يديه ، وقلت : يا هذا ، خذ دنانيرك وانصرف عني ، قد قضيت حاجتك وبلغت وطراً مما أردته ، ولست أحب أن أشرك في دمك . فقال : يا هذا ، لا حاجة لي في الدنانير ، وهذه مثلها لك ، ثم أخرج ثلاثمائة دينارٍ فوضعها بين يدي وقال : أعد الصوت علي مرةً أخرى وحلٌ لك دمي فشرهت نفسي في الدنانير ، وقلت : لا والله ولا بعشرة أضعافها إلا على ثلاث شرائط . قال : وما هي ؟ قلت : أولاهن أن تقيم عندي وتتحرم بطعامي . والثانية أن تشرب أقداحاً من النبيذ تطبب قلبك وتسكن ما بك . والثالثة أن تحدثني بقصتك . قال : أفعل ما تريد . فأخذت الدنانير ودعوت بطعامٍ فأصاب منه إصابة معذرٍ ، ثم دعوت بالنبيذ فشرب أقداحاً ، وغنيته بشعر غيره في معناه وهو يشرب ويبكي ، ثم قال : الشرط أعزك الله فغنيته صوته فجعل يبكي أحر بكاءٍ وينشج أشد نشيجٍ وينتحب . فلما رأيت ما به قد خف عما كان يلحقه ورأيت النبيذ قد شد قلبه ، كررت عليه صوته مراراً . ثم قلت : حدثني حديثك ، فقال : أنا رجلٌ من أهل المدينة خرجت متنزهاً في ظاهرها وقد سال العقيق في فتيةٍ من أقراني وأخداني ، فبصرنا بفتياتٍ قد خرجن لمثل ما خرجنا له ، فجلسن حجرةً منا ، وبصرت منهن بفتاةٍ كأنها قضيبٌ قد طله الندى ، تنظر بعينين ما ارتد طرفهما إلا بنفس من