كتاب نهاية الأرب في فنون الأدب ـ العلمية (اسم الجزء: 5)
"""""" صفحة رقم 230 """"""
من علمٍ وحالٍ وعملٍ كسائر المقامات ، لأن أبواب الإيمان كلها كما قال السلف ترجع إلى عقدٍ وقولٍ وعمل . وكأن القول لظهوره أقيم مقام الحال ، إذا به يظهر الحال الباطن ، وإلا فليس القول مراداً بعينه ، وإذا لم يكن صادراً عن حالٍ سمي إسلاماً ولم يسم إيماناً . والعلم هو السبب في الحال يجري مجرى المثمر ، والعمل يجري مجرى الثمرة . فأما الحال فنعني بها ما يسمى زهداً ، وهو عبارةٌ عن انصراف الرغبة عن الشيء إلى ما هو خيرٌ منه ، فكل من عدل عن شيءٍ إلى غيره بمعاوضةٍ وبيعٍ وغيره فإنما عدل عنه لرغبته عنه ، وإنما عدل لغيره لرغبته فيه . فحاله بالإضافة إلى المعدول عنه يسمى زهداً ، وبالإضافة إلى المعدول إليه يسمى رغبةً وحباً . فإذاً يستدعي حال الزهد مرغوباً عنه ومرغوباً فيه هو خيرٌ من المرغوب عنه . وشرط المرغوب عنه أن يكون هو أيضاً مرغوباً فيه بوجهٍ من الوجوه ، فمن رغب عما ليس مطلوباً في نفسه لا يسمى زاهداً ، فتارك التراب والحجارة والحشرات لا يسمى زاهداً ، لأن ذلك ليس في مظنة الرغبة ، وإنما يسمى زاهداً تارك الدراهم والدنانير . وشرط المرغوب فيه أن يكون عنده خيراً من المرغوب عنه حتى تغلب هذه الرغبة ، فالبائع لا يقدم على البيع إلا والمشترى عنده خيرٌ من المبيع ، فيكون حاله بالإضافة إلى المبيع زهداً فيه ، وبالإضافة إلى العوض رغبةً وحباً ، ولذلك قال الله تعالى : " وشروه بثمنٍ بخسٍ دراهم معدودةٍ وكانوا فيه من الزاهدين " وشروه بمعنى باعوه ، ووصف إخوة يوسف بالزهد فيه إذ طمعوا أن يخلو لهم وجه أبيهم ، وكان ذلك عندهم أحب إليهم من يوسف فباعوه طمعاً في العوض . فإذاً كل من باع الدنيا بالآخرة فهو زاهدٌ في الدنيا ، وكل من باع الآخرة بالدنيا فهو أيضاً زاهدٌ في الدنيا ، وكل من باع الآخرة بالدنيا فهو أيضاً زاهدٌ ولكن في الآخرة ، ولكن العادة جاريةٌ بتخصيص اسم الزهد بمن وهد في الدنيا ، كما خصص اسم الإلحاد بمن يميل إلى الباطل خاصة ، وإن كان هو الميل في وضع اللسان . قال : ولما كان الزهد رغبةً عن محبوبٍ بالجملة لم يتصور إلا بالعدول إلى شيءٍ هو أحب منه ، وإلا فترك المحبوب بغير الأحب محال . والذي يرغب عن كل ما سوى الله تعالى فهو الزاهد المطلق . والذي يرغب عن كل حظٍ ينال في الدنيا ولم يزهد في مثل تلك الحظوظ في الآخرة بل طمع في الحور