كتاب نهاية الأرب في فنون الأدب ـ العلمية (اسم الجزء: 5)

"""""" صفحة رقم 231 """"""
العين والقصور والفواكه والأنهار فهو أيضاً زاهدٌ ولكنه دون الأول . والذي يترك من حظوظ الدنيا البعض دون البعض ، كالذي يترك المال دون الجاه ، أو يترك التوسع في الأكل ولا يترك التجمل في الزينة ، فلا يستحق اسم الزهد مطلقاً ، ودرجته في الزهاد درجة من يتوب عن بعض المعاصي في التائبين ، وهو زهدٌ صحيحٌ كما أن التوبة عن بعض المعاصي صحيحة ، فإن التوبة عبارةٌ عن ترك المحظورات ، والزهد عبارةٌ عن ترك المباحات التي هي حظ النفس . والمقتصر على ترك المحظورات لا يسمى زاهداً ، وإن كان زهد في المحظور وانصرف عنه ، ولكن العادة تخصص هذا الاسم بتارك المباحات . فإذاً الزهد عبارةٌ عن رغبةٍ عن الدنيا عدولاً إلى الآخرة أو عن غير الله عدولاً إلى الله ، وهي الدرجة العليا . وكما يشترط في المرغوب فيه أن يكون خيراً عنده ، فيشترط في المرغوب عنه أن يكون مقدوراً عليه ، فإن ترك مالا يقدر عليه محال ، وبالترك يتبين زوال الرغبة ، ولذلك قيل لابن المبارك : يا زاهد ، فقال : الزاهد عمرٌ بن عبد العزيز ، إذا جاءته الدنيا راغمةً فتركها ، وأما أنا ففيم زهدت وأما العلم الذي هو المثمر لهذه الحال فهو العلم بكون المتروك حقيراً بالإضافة إلى المأخوذ ، كعلم التاجر بأن العوض خيرٌ من المبيع فيرغب فيه ، وما لم يتحقق هذا العلم لا يتصور أن تزول الرغبة عن المبيع ، فكذلك من عرف أن ما عند الله باقٍ وأن الآخرة خيرٌ وأبقى ، أي لذتها خيرٌ في نفسها وأبقى . فبقدر قوة اليقين والمعرفة بالتفاوت بين الدنيا والآخرة تقوى الرغبة في البيع والمعاملة ، حتى إن من قوي يقينه يبيع نفسه وماله ، كما قال الله عز وجل : " إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن الجنة لهم " الآية ، ثم بين أن صفقتهم رابحةٌ فقال الله تعالى : " فاستبشروا ببيعكم الذي بايعتم به " . فليس يحتاج من العلم في الزهد إلا إلى هذا القدر وهو أن الآخرة خيرٌ وأبقى ، وقد يعلم

الصفحة 231