كتاب نهاية الأرب في فنون الأدب ـ العلمية (اسم الجزء: 5)

"""""" صفحة رقم 232 """"""
ذلك من لا يقدر على ترك الدنيا إما لضعف علمه ويقينه ، وإما لاستيلاء الدنيا والشهوة في الحال عليه ولكونه مقهوراً في يد الشيطان ، وإما لاغتراره بمواعيد الشيطان في التسويف يوماً فيوماً إلى أن يختطفه الموت ، ولا يبقى معه إلا الحسرة بعد الفوت . قال : وإلى التعريف خساسة الدنيا الإشارة بقوله تعالى : " قل متاع الدنيا قليلٌ والآخرة خيرٌ لمن اتقى ولا تظلمون فتيلاً " ، وإلى تعريف نفاسة الآخرة والإشارة بقوله عز وجل : " وقال الذين أوتوا العلم ويلكم ثواب الله خيرٌ لمن آمن " ، فنبه على أن العلم بنفاسته هو المرغب عن عوضه . قال : ولما لم يتصور الزهد إلا بمعاوضةٍ ورغبةٍ عن محبوبٍ في أحب منه قال رجلٌ : اللهم أرني الدنيا كما تراها ، فقال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) : " لا تقل هذا ولكن قل اللهم أرني الدنيا كما أريتها الصالحين من عبادك " . وهذا لأن الله يراها حقيرةً كما هي ، وكل مخلوقٍ بالإضافة إلى جلاله حقير ، والعبد يراها حقيرةً في حق نفسه بالإضافة إلى ما هو خيرٌ له ، ولا يتصور أن يرى بائع الفرس وإن رغب عن فرسه كما يرى حشرات الأرض مثلاً ، لأنه مستغنٍ عن الحشرات أصلاً وليس مستغنياً عن الفرس ، و الله تعالى غنيٌ بذاته عن كل ما سواه ، فيرى الكل في درجةٍ واحدةٍ بالإضافة إلى جلاله ، ويراها متفاوتةً بالإضافة إلى غيره ، والزاهد هو الذي يرى تفاوتها بالإضافة إلى نفسه لا إلى غيره . وأما العمل الصادر عن حال الزاهد فهو تركٌ وأخذ ، لأنه بيعٌ ومعاملةٌ واستبدال الذي هو خيرٌ بالذي هو أدنى . فكما أن العمل الصادر من عقد البيع هو ترك المبيع وإخراجه عن اليد وأخذ العوض ، فكذلك الزهد يوجب ترك المزهود فيه بالكلية وهي الدنيا بأسرها مع أسبابها ومقدماتها وعلائقها ، فيخرج من القلب حبها ويدخل حب الطاعات ، وإلا كان كمن سلم المبيع ولم يأخذ الثمن . فإذا وفى شرط الحالتين في الأخذ والترك فليستبشر ببيعه الذي بايع به ، فإن الذي بايعه بهذا البيع وفيٌ بالعهد ، فمن سلم حاضراً في غائبٍ وسلم الحاضر وأخذ يسعى في طلب الغائب سلم إليه الغائب حين فراغه من سعيه إن كان العاقد ممن يوثق بصدقه وقدرته ووفائه بالعهد . ومادام ممسكاً للدنيا فلا يصح زهده أصلاً ، ولذلك لم يصف

الصفحة 232