كتاب نهاية الأرب في فنون الأدب ـ العلمية (اسم الجزء: 5)
"""""" صفحة رقم 233 """"""
الله تعالى إخوة يوسف بالزهد في بنيامين وإن كانوا قد قالوا : " ليوسف وأخوه أحب إلى أبينا منا " ، وعزموا على إبعاده كما عزموا على إبعاد يوسف حتى شفع فيه أحدهم فترك ، ولا وصفهم أيضاً بالزهد في يوسف عند العزم على إخراجه إلا عند التسليم والبيع . فعلامة الرغبة الإمساك ، وعلامة الزهد الإخراج . فإن أخرجت عن اليد بعض الدنيا دون البعض فأنت زاهدٌ فيما أخرجت فقط ، ولست زاهداً مطلقاً ، وإن لم يكن لك مالٌ ولم تساعدك الدنيا لم يتصور منك الزهد ، لأن ما لا تقدر عليه لا تقدر على تركه . وربما يستهويك الشيطان بغروره ويخيل إليك أن الدنيا وإن لم تأتك فأنت زاهدٌ فيها ، فلا ينبغي أن تتدلى بحبل غروره دون أن تستوثق وتستظهر بموثقٍ غليظٍ من الله تعالى ، فإنك إذا لم تجرب حال القدرة فلا تثق بالقدرة على الترك عندها ، فكم من ظانٍ بنفسه كراهة المعاصي عند تعذرها فلما تيسرت لها أسبابها منة غير مكدرو لا مخوف من الخلق وقع فيها . وإذا كان هذا غرور النفس في المحظورات فإياك أن تثق بوعدها في المباحات . والموثق الغليظ الذي تأخذه عليها أن تجربها مرةً بعد مرة في حال القدرة ، فإذا وفت بما وعدت على الدوام مع انتفاء الصوارف والأعذار ظاهراً وباطناً فلا بأس أن تثق بها وثوقاً ما ، ولكن تكون من تغيرها على حذر ، فإنها سريعة النقض للعهد ، قريبة الرجوع إلى مقتضى الطبع . وبالحملة فلا أمان منها إلا عند الترك بالإضافة إلى ما تركت فقط وذلك عند القدرة . قال : وليس من الزهد بذل المال على سبيل السخاء والفتوة وعلى سبيل استمالة القلوب ولا على سبيل الطمع ، فذلك كله من محاسن العادات ولا مدخل له في العبادات ، إنما الزهد أن تترك الدنيا لعلمك بحقارتها بالإضافة إلى نفاسة الآخرة . فأما كل نوعٍ من الترك فإنه يتصور ممن لا يؤمن بالآخرة فذلك قد يكون مروءةً وفتوةً وسخاءً وحسن خلق ، وحسن الذكر وميل القلوب من حظوظ العاجلة ، وهي ألذ وأهنأ من المال ، بل الزاهد من أتته الدنيا راغمةً عفواً وصفواً وهو قادرٌ على التنعم بها من غير نقصان جاهٍ وقبح اسمٍ وفوات حظٍ للنفس ، فتركها خوفاً من أن يأنس بها فيكون آنسا بغير الله ومحباً لما سوى الله ، ويكون مشركاً في حب الله غير الله ، أو تركها طمعاً في ثوابٍ آخر فترك التمتع بأشربة الدنيا طمعاً في