كتاب نهاية الأرب في فنون الأدب ـ العلمية (اسم الجزء: 5)
"""""" صفحة رقم 246 """"""
وكتب الحسن البصري إلى عمر بن عبد العزيز رحمهما الله تعالى : أما بعد ، فإن الدنيا دار ظغن ليست بدار إقامة ، وإنما أنزل آدم عليه السلام من الجنة إليها عقوبةً ، فاحذرها يا أمير المؤمنين ، فإن الزاد منها تركها ، والغنى منها فقرها ، لها في كل حينٍ قتيل ، تذل من أعزها ، وتفقر من جمعها ، هي كالسم يأكله من لا يعرفه وهو حتفه . فكن فيها كالمداوي جراحته ، يحتمي قليلاً مخافة ما يكره طويلاً ، ويصبر على شدة الدواء مخافة طول الداء . فاحذر هذه الدار الغدارة الختالة الخداعة التي قد تزينت بخدعها وفتنت بغرورها ، وحلت بآمالها ، وسوفت بخطابها ، فأصبحت كالعروس المجلوة ، فالعيون إليها ناظرة ، والقلوب عليها والهة ، والنفوس لها عاشقة ، وهي لأزواجها كلهم قالية ، فلا الباقي بالماضي معتبر ، ولا الآخر بالأول مزدجر ، والعارف بالله عز وجل حين أخبره عنها مدكر ، فعاشقٌ لها قد ظفر منها بحاجته فاغتر وطغى ونسي المعاد ، فشغل به لبه حتى زلت به قدمه ، فعظمت ندامته ، وكثرت حسرته ، واجتمعت عليه سكرات الموت وتألمه ، وحسرات الفوت بغصته ، وراغبٌ فيها لم يدرك فيها ما طلب ، ولم يروح نفسه من التعب ، فخرج بغير زاد ، وقدم على غير مهاد . فاحذرها يا أمير المؤمنين ، وكن أسر ما تكون فيها أحذر ما تكون لها ، فإن صاحب الدنيا كلما اطمأن إلى سرورٍ أشخصته إلى مكروهٍ ، السار فيها أهلها غار ، والنافع فيها غدارٌ ضار ، وقد وصل الرخاء فيها بالبلاء ، وجعل البقاء فيها إلى فناء ، فسرورها مشوبٌ بالأحزان . لا يرجع منها ما ولى وأدبر ، ولا يدرى ما هو آتٍ فينتظر ، أمانيها كاذبةٌ ، وآمالها باطلةٌ ، وصفوها كدر ، وعيشها نكد ، وابن آدم فيها على خطر ، ومن البلاء على الحذر . فلو كان الخالق لم يخبر عنها خبراً ، ولم يضرب لها مثلاً ، لكانت الدنيا أيقظت النائم ونبهت الغافل ، فكيف وقد جاء من الله عز وجل عنها زاجرٌ وفيها واعظ فما لها عند الله عز وجل ثناؤه قدر ، وما نظر إليها منذ خلقها . ولقد عرضت على نبيك ( صلى الله عليه وسلم ) بمفاتيحها وخزائنها لا ينقصه ذلك عند الله جناح بعوضةٍ فأبى أن يقبلها إذ كره أن يخالف على الله أمره ، أو يحب ما أبغض خالقه ، أو يرفع ما وضع مليكه . فزواها عن الصالحين اختباراً . وبسطها لأعدائه اغتراراً ،