كتاب نهاية الأرب في فنون الأدب ـ العلمية (اسم الجزء: 5)

"""""" صفحة رقم 247 """"""
فيظن المغرور المقتدر عليها أنه أكرم بها ، ونسي ما صنع الله عز وجل بمحمدٍ ( صلى الله عليه وسلم ) حين شد الحجر على بطنه . ولقد جاءت الرواية عنه عن ربه عز وجل أنه قال لموسى عليه السلام : " إذا رأيت الغنى مقبلاً فقل : ذنبٌ عجلت عقوبته ، وإذا رأيت الفقر مقبلاً فقل : مرحباً بشعار الصالحين " . فإن شئت اقتديت بصاحب الروح والكلمة عيسى بن مريم عليه السلام فإنه كان يقول : " إدامى الجوع ، وشعاري الخوف ، ولباسي الصوف ، وصلائي في الشتاء مشارق الشمس ، وسراجي القمر ، ودابتي رجلاي ، وطعامي وفاكهتي ما تنبت الأرض ، أبيت ليس لي شيءٌ وأصبح لي شيءٌ على الأرض أغنى مني .
وقال بعضهم لبعض الملوك : إن أحق الناس بذم الدنيا وقلاها من بسط له فيها وأعطي حاجته منها ، لأنه يتوقع آفةً تعدو على ماله فتجتاحه ، أو على جمعه فتفرقه ، أو تأتي سلطانه فتهدمه من القواعد ، أو تدب إلى جسمه فتسقمه ، أو تفجعه بشيءٍ هو ضنينٌ به من أحبابه . فالدنيا أحق بالذم ، هي الآخذة لما تعطي ، الراجعة فيما تهب . بينا هي تضحك صاحبها إذا أضحكت منه غيره ، وبينا هي تبكي له إذا أبكت عليه ، وبينا هي تبسط كفه بالإعطاء إذ بسطتها بالاسترداد . تعقد التاج على رأس صاحبها اليوم وتعفره في التراب غداً ، سواءٌ عليها ذهاب ما ذهب وبقاء ما بقي ، تجد في الباقي من الذاهب خلفاً ، وترضي بكلٍ من كلٍ بدلاً .
وعن وهب ابن منبه أنه قال : لما بعث الله عز وجل موسى وهارون عليهما السلام إلى فرعون قال : لا يروعنكما لباسه الذي لبس من الدنيا ، فإن ناصيته بيدي ليس ينطق ولا يطرف ولا يتنفس إلا بإذني ، ولا يعجبنكما ما متع به منها فإنما هي زهرة الدنيا وزينة المترفين . فلو شئت أن أزينكما بزينةٍ من الدنيا يعرف فرعون حين يراها أن قدرته تعجز عما أوتيتما لفعلت ، ولكن أرغب بكما عن ذلك فأزوي ذلك عنكما ، وكذلك

الصفحة 247