كتاب نهاية الأرب في فنون الأدب ـ العلمية (اسم الجزء: 5)

"""""" صفحة رقم 248 """"""
أفعل بأوليائي ، إن لأذودهم عن نعيمها كما يذود الراعي الشفيق غنمه عن مراتع الهلكة ، وما ذاك لهوانهم علي ولكن ليستكملوا نصيبهم من كرامتي سالماً موفراً . إنما يتزين لي أوليائي بالذل والخضوع والخوف والتقوى تنبت في قلوبهم فتظهر على أجسادهم ، فهي ثيابهم التي يلبسون ، ودثارهم الذي يظهرون ، وضميرهم الذي يستشعرون ، ونجاتهم التي بها يفوزون ، ورجاؤهم الذي إياه يأملون ، ومجدهم الذي به يفخرون ، وسيماهم التي بها يعرفون . فإذا لقيتهم فاخفض لهم جناحك وذلل لهم قلبك ولسانك . واعلم أن من أخاف لي ولياً فقد بارزني بالمحاربة ، ثم أنا الثائر له يوم القيامة .
وخطب علي بن أبي طالبٍ رضي الله عنه يوماً خطبةً فقال فيها : اعلموا أنكم ميتون ، ومبعوثون من بعد الموت وموقوفون على أعمالكم ومجزيون بها ، فلا تغرنكم الحياة الدنيا ، فإنها بالبلاء محفوفة ، وبالفناء معروفة ، وبالغدر موصوفة ، وكل ما فيها إلى زوال ، وهي بين أهلها دولٌ وسجال ، لا تدوم أحوالها ، ولا يسلم من شر نزالها ، بينا أهلها في رخاءٍ وسرور ، إذا هم منها في بلاءٍ وغرور ، أحوالٌ مختلفة ، وتارات متصرفة ، العيش فيها مذموم ، والرخاء فيها لا يدوم . وإنما أهلها فيها أغراضٌ مستهدفةٌ ترميهم بسهامها ، وتقصيهم بحمامها ، وكلٌ حتفه فيها مقدور ، وحظه فيها موفور . واعلموا عباد الله أنكم وما أنتم فيه من هذه الدنيا على سبيل من قد مضى ممن كانوا أطول منكم أعماراً ، وأشد منكم بطشاً وأعمر دياراً ، وأبعد آثاراً ، فأصبحت أصواتهم هامدةً وخامدةً من بعد طول تقلبها ، وأجسادهم بالية ، وديارهم خالية ، وآثارهم عافية ، استبدلوا بالقصور المشيدة ، والسرر والنمارق الممهدة ، الصخور والأحجار المسندة ، في القبور اللاطئة الملحدة ، فمحلها مقترب ، وساكنها مغترب ، بين أهل عمارةٍ موحشين ، وأهل محلةٍ متشاغلين ، لا يستأنسون بالعمران ، ولا يتواصلون تواصل الجيران والإخوان ، على ما بينهم من قرب

الصفحة 248